تقاطع الطبقة والدين: المرأة في التدين الشعبي مواطن درجة ثانية
*وليد زايد
تتعدد أوجه الإشكاليات التي تواجه النساء في العالم العربي في نضالها للتمتع بحقوق المواطنة والمساواة الكاملة مع الرجال، وتتشابك هذه الإشكاليات مع بعضها لتخرج منتجًا معقدًا يصعب تفسيره بسهولة. الجميع ساهم في هذه المعضلة سواء كانت المؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية، أوالمؤسسات القانونية، وكذلك الدور الكبير الذي تلعبه العادات والتقاليد. ولكن لا يمكننا أيضًا غض النظر عن العامل الطبقي الإجتماعي والاقتصادي في المساهمة في هذه المعضلة. فمن الملاحظ أن تعامل الطبقة الفقيرة مع الدين يختلف عن تعامل الطبقة الوسطي ويختلف كليًا عن تعامل الطبقات العليا مع مظاهر التدين، ولكن الجميع يجمعهم عامل هام يحدد نمط تفاعلهم في المجال العام ( الجماعي ) وهو فكرة الخوف من الفضيحة، على عكس الدول الغربية القائمة على فكرة الخوف ( الفردانية ) من الشعور بالذنب والعقاب.
في سياق عام، ، تعول فيه النساء المصريات حوالي 30% من الأسر بشكل كامل وتساهم فيه أكثر من 70% منهن في الإنفاق على الأسرة، لم يكن لدى الطبقات الفقيرة والمتوسطة الدنيا الرفاهية الكافية لكي تمنع النساء من الخروج للعمل، ولكن الظروف الاقتصادية والاجتماعية هي التي أجبرت المواطنين علي تقبل عمل المرأة وتعليمها. ولكن في نفس الوقت الذي يقبل فيه عمل المرأة في الطبقات الدنيا، نجد أن في بعض الأحيان أن الطبقة المتوسطة، والتي من المفترض عليها أن تحافظ على توازن المجتمع، تتبنى أفكار رجعية أكثر من الطبقة الفقيرة، وعلى أثر ذلك يمكننا البحث حول إمكانيات فهم الإشكاليات التي تواجه حصول المرأة على المواطنة الكاملة، في ضوء وجود أنماط من التدين الشعبي السائدة تختلف عن أى خطابات دينية رسمية أو غير رسمية، فمثلما أعتقد بعض أنصار التيار المحافظ أن تدين الشعب المصري سيدفع تجاه دعم غير محدود للحركات الإسلامية، إلا أن ما حدث يختلف عن هذه التصورات ولم تقدم الجماهير هذا الدعم المتخيل.
التدين الشعبي في ضوء النظرية التقاطعية النسوية
تطرح الظاهرة الدينية نفسها بإلحاح شديد علي ساحة الأحداث التي يشهدها المجتمع المصري، خاصة في ظل الحديث عن تجديد الخطاب الديني، ولكن أى خطاب ديني الذي سيتم تجديده؟. هذا السؤال يطرح نفسه بشدة في ضوء غض النظر عن أن المواطنين لا يتبعوا خطاب ديني بعينه، وإنما التردي الثقافي والاجتماعي وتراجع المستوى المعيشي لأغلب المواطنين، هو ما يدفع نحو تبني قيم رجعية ومتشددة.
البحث في التطور النسوي في ضوء أنماط التدين وملامحه كان من ضمن أهتمامات الموجة النسوية الثالثة، فقد ركز المنتمون إلى هذه الموجة على فكرة التعددية فى النسوية، وإنه لا يوجد كيان واحد يسمى إمراة يعانى من نفس المعاناة التى تعانى منها كل النساء، فقد رفضت فكرة تعميم المعاناة، فعلى سبيل المثال المرأة الفقيرة من ذوي البشرة السوداء تعانى من معاناه مختلفة عن المرأة من الطبقة المتوسط من ذوي البشرة السوداء، فهي تعاني من معاناة مركبة متعددة الأوجه.قاد هذا الخطاب نسويات من ذوى البشرة السوداء فى الولايات المتحدة الامريكية، حيث رأوا أن النسويات البيض من الطبقة الوسطى اشتغلن على احتكار الخطاب النسوى وتعميمه على معاناة كل النساء حول العالم، بدون اشتباك حقيقى مع معاناة باقي النساء من الطبقات والخلفيات الاجتماعية المختلفة.
ويعتبر تقاطع النسوية مع الظاهرة الدينية مع الطبقة في معادلة مركبة ينتج لنا أنماط مختلفة من التعامل مع النساء، ويعتبر التدين الشعبي أداة من أدوات العوام وغيرهم لحل مشكلاتهم بطريقة ذاتية، ففي حين يواجه الأفراد مشكلات صعبة يأتي الدين الشعبي كرد فعل للتعامل مع المعضلات التي تقف حائلا أمام اشباع الاحتياجات الاجتماعية. إنه نوع من الهروب إلي الدين باعتباره ملاذا امنًا نتيجة لعدم تحقيق الاحتياجات الاجتماعية. التصوف ،كأحد أنماط التدين، لا يؤيد المنتمين إلى التيارات الإسلامية المتشددة كالإخوان المسلمين والسلفيين، ولكن في نفس الوقت يمارسه العوام بشكل واع أو غير واع بهذه الممارسات.
خليط من العادات والتقاليد والتدين ، ينتج لنا نسخة من الدين محلية تبعًا للثقافة الداخلية، يساهم التردي الثقافي في تشويهها، وفي ضوء النظرة الرجعية التي روجت لها الجماعات الإسلامية في رسم المتخيل الإسلامي للمرأة الغربية والشرقية، جعل التطرق في أى حديث عن حرية المرأة مرتبط شرطيًا بالتصور الجنسي، باعتبار أن الحرية سلبت المرأة إنسانيتها وحولتها إلى وسيلة للإثارة والتسويق التجاري، وأدى ذلك إلى الأزمة الهيكلية في مواطنة النساء بشكل أكبر.
طبقة وسطى مصطنعة القيم والتكوين
لقد ارتبط تكوين الطبقة الوسطى في مصر، وبعض الدول العربية، بالسلطة وتوجهات النظام السياسي، فقبل قيام الجمهورية الأولى في مصر، لم تعرف مصر وجود طبقة وسطى بالشكل الحديث، ولكنها عرفت البرجوازيات الكبيرة والنظم شبه الاقطاعية، ولكن بعد ثورة عام 1952، بدأ المجتمع تظهر فيه طبقة وسطى ولكنها طبقة وسطى مصطنعة ولا تشبه الطبقات الوسطى المتكونة في أوروبا بفعل التراكم الرأسمالي والثورة الصناعية. هذه الطبقة تكونت من البرجوازيات الصغيرة التي بدأها العسكريون والمدنيون المسحوقون بين طيات النظام السياسي، والذين تمتعوا بمزايا عصر عبدالناصر، واستغلوا في بعض الأحيان الثروات المؤممة. وكذلك الطبقات الدنيا التي غازلها نظام عبد الناصر وقدم لهم حزمة من الخدمات والمزایا، مقابل الولاء السیاسى متمثلة فى التعلیم المجانى، والعلاج المجانى، والتوظیف الحكومى.
ولكن منذ حقبة السبعينات تغيير العقد الاجتماعي الذي يقوم عليه أسس النظام الحاكم، فلم يعد النظام قادر على إعطاء المواطنين نفس المزايا التي قدمها لهم النظام الناصري، خاصة بعدما اعتمد على سياسة اقتصادية منفتحة ورأسمالية، مما دفع الطبقة الوسطى للاعتماد على التعلیم الخاص والأجنبي العلاجالخاص. ولكن من أجل تحقيق طموحات هذه الطبقة أتجهت إلى دول الخليج واستكملت تراكمها الرأسمالي في مجتمعات شبه الجزيرة العربية وقيمها البدوية أنذاك. أما عن الطبقات الدنيا ، فقد أصبحوا فقراء رسميًا، ولم يجدوا فرص تعليم أو عمل ملائمة. أما الطبقات العليا من البرجوازية الصغيرة ، فقد تحول جزء هام منهم بفعل سياسة الانفتاح إلى برجوازيات متوسطة وكبيرة وانقلبوا على قيم الاشتراكية التي لطالما تغنوا بها، ولأنها ليست برجوازية حقيقية لم ترتبط بصناعة حقيقية ولا بتقدم حقيقي ولكنها اهتمت تجميع ثروات من خلال أنشطة استهلاكية غير مؤسسة لدولة متقدمة.
كان لهذه التحولات المجتمعية والحراك الذي شهده المجتمع المصري في ذلك الحين الأثر الأكبر في إعادة تكوين القيم المجتمعية وإعادة تشكيل العلاقة مع الدين، فجزء كبير من التحولات في العقل الجمعي المصري مرتبطة بالقيم والعادات التي جاءت العمالة محملة بها من دول الخليج والجزيرة العربية. بجانب أن غياب العدالة الاجتماعية الذي خلق سخطاً شعبياً استوعبته الجماعات الإسلامية في تنظيماتها، والتي ليست ذات توجهات اشتراكية بالأساس ولكن توجهاتها رأسمالية بحتة، وجميع قيادات هذه الجماعات من رجال الأعمال، وبالتالي لن نجد أى من هذه القيادات التي تستغل الدين كستار، تتبني أى أراء تناصر العدالة الإجتماعية مثلا رفع الضرائب على رجال الأعمال. ومن السهل أن نجد أيضًا تأجيجاً لصراع طائفي في أى مدنية جذورها تعود لخلافات على تراكم الثروة ولكنها أتخذت طابعًا طائفيًا متعمداً.
هذا الحراك الإجتماعي ساهم في تشكيل نمط ليس بجديد في التعامل مع المرأة ولكنه أكثر تطرفًا، وهذا يلاحظ في متطلبات الزواج في الطبقة الوسطى بالمقارنة بالطبقات الدنيا، ففي حين يتطلب من الرجال من الطبقة الوسطى للزواج مظاهر مبالغ فيها، قد تصل إلى حد انفاق جميع الأموال التي قاموا بتجميعها فى حياتهم من أجل اتمام الزواج، في المقابل لا تدفع المرأة كشريك في علاقة الزواج إلا جزءاً بسيطاً في التكاليف ، هذا الفشل في منظومة الزاوج ترك انطباعاً لدى الرجال بأن العلاقة الزوجية ما هى إلا علاقة سوقية مرتبطة بالبيع والشراء، وبالتالي تغييرت قيم المنظومة بأكملها. وبدأت جذور هذه المعضلة بوضوح منذ أن بدأت عمليات هجرة العمالة إلى الخليج، فبدأت تتكون طبقة برجوازية صغيرة تتبنى قيم المال والأسواق، االتي عايشوها في دول الخليج، وبدأت الاسر المصرية تدفع نساءها للزواج من العائدين من الخليج بحثًا عن مستوى معيشي مرتفع.
وقد بدأت الثقافة المجتمعية في التدني على جميع المستويات، فعلى الرغم من أن الطبقات الدنيا ليس لديها نفس نمط منظومة الزواج لضعف قدرتها المالية على الإنفاق، إلا أن قدرتها على الحصول على قدر جيد من التعليم والثقافة تدنى إلى الحد الأدنى، ومع انتشار القيم الثقافية المشوه، أصبح من الصعب إنقاذها من براثن التراجع الثقافي. بجانب أن شعور المواطنين بالقهر الاقتصادي والاجتماعي ، ما جعلهم يمارسون قهرًا مضادًا ضد النساء، باعتبارهم الكائن الأضعف، فمثلا نجد أن ارتفاع حالات العنف ضد المرأة يتزايد مع تراجع القدرات الشرائية والحالة الاجتماعية للأسر، فالقهر الذي يواجه الرجال خارج المنزل ينعكس داخله.
لا توجد احصائيات واضحة تؤكد أن وضع النساء كان أفضل في العصر الحديث قبل القرن العشرين، ولكن على الأقل لم يكن ينظر للنساء نظرة وضيعة، خاصة أنه لم يكن هناك وعى كاف بحقوق النساء، ولم تكن قد بدأت الحركة النسوية في الظهور. بالإضافة إلى أنه لم يكن حقوق المواطنين محددة وواضحة في اطار القانون . في الآونة الأخيرة ، بدأ تظهر كتابات باحثين وناشطين تتحدث عن إسلام الجزيرة العربية ال١ي لا يناسب البيئة والثقافة المصرية، وأن هناك نسخة من الإسلام خاصة بالمجتمع المصري، هذه النسخة ترتبط بظاهرة التدين الشعبي غير المؤدلج.
أى مستقبل ينتظر مواطنة المرأة؟
هناك تراجع واضح للإسلاميين بكل فصائلهم، سلفيون أو إخوان أو جمعيات شرعية، عن صدارة المشهد الديني في مقابل عودة سيطرة المؤسسات الدينية الرسمية، ولكن في سياق مترد ، ثقافيا واجتماعيا في العديد من المجتمعات العربية. ويتزايد بين المواطنين تدين شعبي مستقل بلا أدلجة سواء من الجماعات الدينية أو من المؤسسات القومية والرسمية التابعة للدولة. وتشير التقديرات الى أن الدولة لن تتمكن من ملء فراغ الإسلاميين لضعف ثقة المواطنين بالمؤسسة الدينية الرسمية ولكن في نفس الوقت لن يعود المجتمع إلى المربع صفر مرة أخرى.
يمكننا القول أن تدين الجماعات والتيارات المؤدلجة طارئ واستثنائي، إذا ما استغلت السلطة السياسية هذه اللحظة بالارتقاء بالمستوى الثقافي والاجتماعي والتعليمي للمواطنين، والتوقف عن تدوير التردي الثقافي بصورعشوائية وفوضوية وتطرفًا. فما أصبح راسخًا من إلحاق الصفات المتدنية كرمز للمرأة ما هو إلا نتاج دائرة فكرية يتم إعادة تدويرها في المجتمع بشكل مستمر، ويتم توارثها عن طريق العادة والممارسة، واستمرار انسحاب الدولة من تدعيم الثقافة والتعليم ، سوف يؤدى الى استمرار حالة التردي والتدني في وضعية المراة المصرية .