تراجع روسيا في جنوب القوقاز

تقدم إيران وتركيا ودول الخليج العربي وإسرائيل وتقاطعات المصالح في المنطقة
تقدير موقف، مركز تقدم للسياسات
تقديم:
بعد أكثر من عامين على حرب أوكرانيا وأقل من عام على حربٍ استعادت بها أذربيجان جيب ناغورنو كاراباخ من أرمينيا، تتالت أعراض تحوّلات تكشف تراجعا في هيمنة روسيا “التقليدية” على جنوب القوقاز، مقابل عودة نفوذ تاريخي لتركيا وإيران في المنطقة يعود للقرون الماضية. غير أن أعراضا أخرى تكشف عن ارتفاع نسبة انخراط الشرق الأوسط بجنوب القوقاز، بما في ذلك اهتمام دول مجلس التعاون الخليجي بتوسيع حضورها واستثماراتها ونفوذها لدى دول المنطقة.
نقرأ هذه التحوّلات من خلال رصد التطوّرات التالية وأسبابها:
– نشطت وسائل الإعلام الإيرانية خلال الأيام الأخيرة على تسليط الضوء على خلاف طهران مع موسكو بشأن دعم موسكو لتغير في خرائط الممرات في جنوب القوقاز بعد الحرب التي خاضتها أذربيجان في سبتمبر 2023 لاستعادة إقليم ناغورنو كاراباخ من أرمينيا. وكانت طهران استدعت السفير الروسي لديها في 2 سبتمبر 2024 لإبلاغه تحفّظ إيران على سياسة موسكو في هذا الملف.
– يخفي الامتعاض الإيراني تخوّفا من تنامي نفوذ تركيا في المنطقة، لا سيما أن دعما تركيا سياسيا وعسكريا لأذربيجان بغض نظر روسي قد ساهم في تحقيق أذربيجان لخططها في استعادة الإقليم المتنازع عليه منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
– ساهمت حرب روسيا في أوكرانيا في ارتفاع مستوى القلق من تنامي هيمنة روسية على القوقاز في حال نجاح روسيا في حربها. وكان سبق لرئيس كازاخستان، قاسم غومرت توكاييف، أن عبّر عن استقلالية عن موسكو، فيما أخذت روسيا على ارمينيا تطوّر علاقاتها السياسية والعسكرية مع الغرب.
– ما زال لروسيا نفوذ مهم في جنوب القوقاز لكنه لم يعد حصريا وتراجعت مستوياته. فإضافة إلى تمدد نفوذ دول أخرى مثل تركيا وإيران والصين والولايات المتحدة، إلا أن مراقبين يرون أن أحد أسباب ضمور هذا النفوذ هو غزو روسيا لأوكرانيا، التي استهلكت تقريبا جميع موارد موسكو العسكرية في جنوب القوقاز وأضرت بمكانتها كقوة عظمى.
– وسّعت تركيا تحالفها مع أذربيجان في المجالات العسكرية والاقتصادية، ودفعت إلى فتح ممر تجاري وعبور جديد عبر أقصى جنوب أرمينيا، مما سيسمح لتركيا بالاتصال عبر ناخيتشيفان بأذربيجان.
– أزعج هذا الأمر إيران التي لطالما تحالفت مع أرمينيا، ليس فقط لتحقيق توازن ضد أذربيجان، بل أيضا باعتبارها الرابط الوحيد مع المنطقة القوقازية التي لا تخضع لنفوذ تركيا.
– يرى مؤرخون أن تراجع النفوذ الروسي في هذه المنطقة يتّسق مع مسارات تاريخية دائمة كانت الهيمنة فيها في القرون الماضية لتركيا وإيران. يلفت هؤلاء إلى أنه جغرافيا، وعلى الرغم من أن جنوب القوقاز غالبا ما ينظر إليه على أنه مرتبط بروسيا، إلا أنه في الواقع استمرار جيوسياسي للشرق الأوسط.
•يلفت خبراء المنطقة إلى تنامي الروابط في السنوات الأخيرة بين الشرق الأوسط وجنوب القوقاز على نحو موازي لنفوذ تركيا وإيران. ويشير هؤلاء إلى أدلة بشأن تطوّر علاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع المنطقة ويرصدونها عبر التطوّرات التالية:
1-اتجاه مكثف لنسج علاقات مكثفة بين المجلس وأذربيجان على وجه الخصوص. في نوفمبر 2023 تمّ اعتماد خطة العمل المشتركة مع أذربيجان 2024-2028 لتنفيذ خطة لتطوير الروابط السياسية والطاقة والتجارية.
2-تعمل اللجنة المشتركة الحكومية بين أذربيجان والإمارات العربية المتحدة بنجاح، مما سهل في أغسطس 2023 استحواذ شركة بترول أبوظبي الوطنية “أدنوك” على حصة 30 بالمئة من حقل “أبشيرون” للغاز في بحر قزوين قبالة ساحل أذربيجان.
3- في إطار المجلس الاستشاري لممر الغاز الجنوبي تمّ، في 2 فبراير 2023، التوقيع على اتفاقية تعاون بين شركة البترول الأذربيجانية الحكومية “سوكار” وشركة “اكوا باور” السعودية حول الاستغلال المشترك لمشاريع الطاقة المتجددة بجمهورية أذربيجان.
4- كثف مجلس التعاون الخليجي أيضا علاقات الاستثمار والتجارة مع جورجيا. في أوائل عام 2024، اشترت مجموعة AD Ports – مشغل المدن الصناعية والمناطق الحرة في أبو ظبي – حصة مسيطرة (60 بالمئة) في ميناء جاف رئيسي في تبليسي.
5-في يناير 2024 تمّ توقيع مذكرة تفاهم إنشاء “مجلس التنسيق السعودي – الجورجي”، التي وافق عليها مجلس الوزراء السعودي في 21 نوفمبر 2023.
6-يلاحظ خبراء ان مجلس التعاون الخليجي يدرس إمكانات متزايدة في جنوب القوقاز، حيث يتم تطوير الطريق التجاري على مستوى أوراسيا، الذي يطلق عليه اسم الممر الأوسط. من المقرر أن يجذب ما يصل إلى 20 بالمئة من الشحنات البرية المعبأة في حاويات بين الاتحاد الأوروبي والصين، وهو ممر من البحر الأسود إلى آسيا الوسطى.
– يعتبر باحثون في شؤون جنوب القوقاز أن دول هذه المنطقة تتطلع إلى تعديل موازين القوى وتنويع علاقاتها مع دول الشرق الأوسط في سعيّ للحد من نفوذ روسيا في منطقتهم.
– تشير بعض المصادر إلى أنشطة إسرائيل في منطقة جنوب القوقاز، خصوصا أن إسرائيل تمتلك علاقات قديمة متقدمة سياسية وأمنية مع أذربيجان. وكانت تقارير تحدثت عن استفادة القوات الأذرية من التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المتطوّرة في استعادة ناغورنو كاراباخ في حربي 2020 و2023.
– يرى محللون أن العامل الإسرائيلي هو محفّز إضافي لتزايد ارتباط جنوب القوقاز بالشرق الأوسط. فالوجود الإسرائيلي يقلق إيران ويؤثر بشدة على علاقات طهران مع أذربيجان.
– سبب آخر بشأن اهتمام الشرق الأوسط بالمنطقة يتعلق بالطاقة، حيث ترتبط معظم إمكانات الطاقة في جنوب القوقاز الآن بالشرق الأوسط. وإذا ما كانت تركيا أول المستفيدين، غير أن إسرائيل أيضا مستفيدة من الغاز المتدفق من أذربيجان عبر موانئ البحر الأبيض المتوسط التركية.
– يشير خبراء المنطقة إلى أن خطوط الأنابيب من أذربيجان إلى تركيا أو الممر الأوسط ليست سوى جزء من البنية التحتية المتغيرة في جنوب القوقاز، والتي كانت موجهة تقليديا نحو روسيا.
– يمر الطريق التجاري الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يمتد من روسيا إلى إيران في الغالب عبر أذربيجان. كما تشارك إيران بنشاط في مناقشة ممر آخر إلى البحر الأسود عبر أرمينيا وجورجيا، ناهيك طبعا عن مشاريع وممرات تعمل عليها تركيا مع أذربيجان.
خلاصة:
**تبرز منطقة جنوب القوقاز كفضاء نفوذ يتراجع فيه مستوى النفوذ التقليدي الذي كانت روسيا تتمتع به بشكل حصري منذ عهد الاتحاد السوفياتي.
**تستعيد كل من تركيا وإيران، بشكل تنافسي، الدور التاريخي الذي كانت الدولتان تلعبانه في القرون الماضية، بما يعيد قاعدة تاريخية أوقفها استثناء سوفياتي-روسي حديث، حسب مؤرخين.
**تلعب الطاقة دورا أساسيا في اهتمام دول الشرق الأوسط بجنوب القوقاز، لا سيما أن أذربيجان تمدّ إسرائيل بالغاز عبر موانئ تركيا.
**يسجل اهتمام لافت لدول مجلس التعاون الخليجي بمنطقة جنوب القوقاز. وقد اهتمت المنطقة بإبرام صفقات في مجالات الطاقة والاستثمار ما يعزز نفوذا خليجيا متصاعداً لدى دول هذه المنطقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.