تداعيات خطّة ترامب في غزّة: المناورة والعوامل المضادة

ورقة سياسات:

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

• تقديم:

وسط مفاجأة فجّرها الرئيس الأميركي بشأن تهجير سكان غزّة وإعادة إعمارها، لا زال المعنيّون يراقبون تطوّر هذا الحدث وحيثياته ومراميه وإمكانات تنفيذه. يكشف الحدث عن تحوّلات داخل واشنطن والنظام العالمي، كما داخل الدائرة العربية، لا سيما بروز موقف مصري أردني حازم، مدعوما بمزاج أوروبي رافض، ومواقف عربية متقدمة، لا سيما سعودية، ترفض المقترح وتقوّض الجهود التي تعوّل عليها واشنطن لتوسيع “اتفاقات أبراهام” في المنطقة.

• خطّة ترامب: إسرائيل واتفاق غزّة
قدم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 4 فبراير 2025، اقتراحا يقضي بـ”استيلاء” الولايات المتحدة على قطاع غزّة، وتنفيذ هندسة تطويرية عقارية تحوّل هذه المنطقة إلى “ريفييرا” مطلّة على البحر الأبيض المتوسط. وتقوم هذه الخطّة، وفق اقتراحه، على تهجير السكان إلى مصر والأردن وبلدان أخرى. أتى هذا الاقتراح بعد اجتماعه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في واشنطن وخلال مؤتمر صحفي مشترك بينهما.
وعقب عرض ترامب للاقتراح، والذي لا يرقى إلى مستوى الخطّة المتكاملة، وفق مسؤولين أميركيين، أظهر نتنياهو ملامح متفاجئة على وجهه من اقتراح الرئيس الأميركي، ولم يثبت لاحقا أن الاقتراح جاء نتيجة مداولاتهما قبل ذلك. غير أن نتنياهو لاقى ترامب في اقتراحه، واعتبره مشروعا مثاليا لحل أزمة غزّة، ويجيب بدقّة على مسائل “اليوم التالي” لانتهاء الحرب، والذي لم تُظهر أطراف الصراع، المباشرين وغير المباشرين، أي خطط واقعية بشأنه، على الرغم من مرور 15 شهرا على الحرب.
وقد أدى اقتراح ترامب بشأن غزّة إلى إعادة خلط الأوراق داخل إسرائيل، لا سيما لجهة إعادة ترتيب التوجهات المتعلّقة بالحكومة الإسرائيلية وديمومتها، أو القرارات المتعلّقة بمستقبل الحرب في غزّة. ويظهر ذلك جليا في إعادة إسرائيل النظر بالمرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين، خصوصا بعد أن طالب ترامب، بما يخالف الاتفاق، بإطلاق سراح كافة المحتجزين الإسرائيليين في 15 فبراير 2025، وليس فقط 3 منهم كما ينصّ الاتفاق. وقد أبدى المعنيّون قلقا على مستقبل كل الاتفاق، حين اعتبر مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أن نصّ الاتفاق وصياغاته تعود لإدارة الرئيس السابق، جو بايدن، وأنه من المنطقي إعادة النظر به. وجدير، إضافة إلى ذلك، مراقبة إعلان إسرائيل، في 16 فبراير 2025، عن تسلّمها قنابل ثقيلة حجبتها الإدارة الأميركية السابقة.
• رفض دولي وغياب حاضنات عربية:
بدا اقتراح ترامب بشأن غزّة والتهجير مفاجئا للإدارة في واشنطن التي سعت لاحقا لوضعه داخل إطار مخفّف. فقد اعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي، مايك والتز، في اليوم التالي لاقتراح ترامب، أن “مقترح الرئيس الأميركي يهدف إلى الضغط على الدول العربية المجاورة لغزة من أجل التوصل إلى حلول أخرى”، في إشارة إلى مصر والأردن.
واعتبر المراقبون أن هذا الموقف، الذي أتى بعد ساعات فقط من إعلان ترامب اقتراحه، فرّغ، ربما من دون قصد، الاقتراح من جدّيته، وبات مدرجا في سياق تصريح إعلامي مثير للجدل، جاذب للنقاش الدولي، وهو مناورة للتفاوض والمساومة. كما أن تعدد النسخ الذي قدم بها ترامب عرضه ما بين استيلاء وسيطرة على القطاع وشراء له مع استبعاده إرسال قوات أميركية إلى غزّة، وضع علامات استفهام، من دون أي استخفاف، على المقاصد الحقيقية من خلال توقيت وشكل ومضمون الاقتراح.
وقد تعاملت أغلبية بلدان العالم بسلبية مع اقتراح ترامب، لا سيما دول المنظومة الغربية، وخصوصا تلك الأوروبية، وأصدرت مواقف وبيانات ترفض تحوّل القضية الفلسطينية من بعد سياسي تاريخي إلى بعد عقاري يُسقط عن الفلسطينيين حقوقا تعترف بها قرارات مجلس الأمن منذ عام 1947. وأجمعت هذه المواقف على استمرار التمسك بحلّ الدولتين كقاعدة لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويضاف موقف حلفاء الولايات المتحدة الرافض لخطة ترامب إلى مواقف صدرت عن دول الجنوب كما عن دول كبرى مثل روسيا والصين.
• مصر والأردن: رفض بدعم عربي:
جوبهت خطّة ترامب بغياب شريك للولايات المتحدة داخل العالم العربي. وكان لافتا وواضحا الموقف الحاسم الذي صدر عن مصر والأردن، البلدين المعنيين مباشرة بخطة ترامب لتهجير سكان غزّة، من رفض حازم لمبدأ إخراج الفلسطينيين من أرضهم، لتتطوّر حوافز هذا الرفض المعلنة، إلى اعتبار ذلك التهجير خطرا على الأمن الاستراتيجي للبلدين، بما بعث إلى واشنطن برسائل إضافية بوجود عوامل مصرية وأردنية تمنع السماح بتمرير خطّة من هذا النوع.
وقد عبّرت القاهرة بمستويات مختلفة عن رفض هذه الخطّة، لا سيما من قبل البرلمان ووزارة الخارجية وعلى لسان الرئيس عبد الفتاح السيسي، شخصيا. كما أطلقت رسائل الرفض قطاعات شعبية وأهلية ونقابية ليست بعيدة عن مزاج السلطة السياسية وتدبيراتها. ووصل مستوى الرفض المصري إلى درجة الإعلان، من خلال “مصادر”، عن إلغاء زيارة للرئيس السيسي إلى واشنطن إذا كان يتضمن جدول أعمالها مسألة تهجير سكان غزّة. غير أن مصر، أضافت إلى هذه المواقف، الإعلان عن وجود خطّة مصرية لإعادة إعمار غزّة من دون إخراج الغزيين من القطاع.
بالمقابل، وإضافة إلى سلسلة مواقف صدرت عن الأردن، على مستويات مختلفة، ترفض تهجير الفلسطينيين من أرضهم، بما في ذلك دعوات إسرائيلية إلى “ترانسفير” لسكان الضفة الغربية نحو الأردن، واقتراح ترامب نقل قسم من سكان غزّة إلى الأردن، فإن العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، زار الولايات المتحدة، والتقى الرئيس الأميركي، في 12 فبراير 2025.
ولم يصدر عن الملك الأردني أي احتمال قبول بخطّة ترامب، رغم الضغوط التي مارسها الأخير خلال مؤتمر صحفي مشترك، قيل إنه لم يكن من ضمن الترتيبات المسبقة للقاء. وقد نجح الملك عبد الله في الموازنة ما بين “إطراء” دبلوماسي للرئيس الأميركي وتثمين لجهوده لإحلال السلام في المنطقة من جهة، ورفض مبطن من جهة ثانية، لخطّته وغياب أي موقف محتمل لقبولها. وقد أكد الملك أنه سيعمل لما فيه “مصالح الشعب الأردني”، وأحال الموقف بشأن مستقبل غزّة إلى خطّة إعادة الإعمار التي ستقدمها مصر، وإلى دعوة وجهها له وليّ عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، لمناقشة هذا الملف.
ومن المفترض أن يرفد الموقف الرافض لاقتراح ترامب، إضافة إلى مواقف عواصم دولية (أوروبية خصوصا) مواقف قمّم عربية، جزئية وشاملة، لدعم موقف عمّان والقاهرة وحمايته داخل مظلّة عربية، لا سيما بعد صدور مواقف عربية متعددة منفصلة رافضة لخطة ترامب، لا سيما موقف السعودية الذي كان لافتا في سرعة الردّ من خلال “بيان الفحر” الذي صدّر، في 5 فبراير 2025، بعد أقل من ساعة على إعلان ترامب اقتراحه وإعلان نتنياهو في نفس المناسبة بأن إنه واثق بقدرته على التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات مع السعودية، مشيرًا إلى أنه ملتزم بجعله حقيقة، معتبراً أن السلام بين إسرائيل والسعودية ليس ممكنًا فحسب، بل سيتم تحقيقه. وأعلن البيان السعودي رفض التهجير واشتراط قيام دولة فلسطينية قبل أي تطبيع للعلاقات مع إسرائيل.
• خطّة ترامب: عوامل الضعف وصعوبة التطبيق:
بالنظر إلى توقيت وظروف إعلان ترامب عن خطّته، وردود الفعل الأميركية والدولية والعربية، يعتبر خبراء في شؤون الشرق الأوسط والعلاقات العربية الأميركية أن اقتراح ترامب غير قابل للتطبيق وتغيب عنه مقومات التنفيذ لأسباب عديدة أهمها:
1-على الرغم من أن ترامب قرأ الاقتراح ولم يرتجل، ولم يكن ردّا عرضيا على سؤال، إلا أن الاقتراح فضفاض يثير الأسئلة ولا يوفّر أي أجوبة منطقية مقنعة.
2-على الرغم من أن ترامب وفريقه من بعده يعتبرون الاقتراح الخطّة الوحيدة المتوفّرة (رغم كلام القاهرة عن خطّة بديلة)، غير أن مراقبين لا يجدون سببا لعدم تضمين أي خطة بديهية بقاء الغزيين في القطاع بموازاة ورش إعادة الإعمار، وهو أمر وارد هندسيا ينزع عن الخطّة وجاهة التهجير المقترح.
3-إن الخطّة الأميركية تحتاج إلى قوة إنفاذ لا يمكن أن تتمّ، وفق مقاربة “استيلاء” الولايات المتحدة على غزّة، إلا من خلال تدخل عسكري أميركي مخالف لوعود ترامب بسحب بلاده من صراعات قديمة وجديدة، ويعرّض الجنود الأميركيين لخسائر لا يحتضن وقعها وضرورتها الرأي العام الأميركي.
4-يغيب عن الخطة أي احتضان دولي، لا سيما غربي أطلسي، ما ينزع عن “العنوان الإنساني” الذي يقدمه ترامب مبررات أخلاقية وشرعية وسياسية، ويعزل الولايات المتحدة في العالم عن حواضن غربية واكبت كل مشاريع السلم والتطبيع التي لطالما كانت واشنطن راعية لها.
5-تغيب أي شراكات عربية عن خطة ترامب التي تعني دول المنطقة سواء في موقفها المبدئي من القضية الفلسطينية، أم مستقبل الأمن الاستراتيجي للمنطقة والدول المعنيّة بسيناريوهات تهجير الفلسطينيين. ومن دون شراكة عربية ستتحوّل خطّة ترامب إلى مشروع احتلال ستدعم المصالح العربية أشكال مواجهته.
6-مقابل تلويّح إدارة الرئيس ترامب باستخدام سلاح المساعدات الأميركية ضد مصر والأردن، فإن هذا الاحتمال يبدو واهيا لهذه الأسباب:
••تعتبر مصر والأردن أن خطّة ترامب تنطوي على تغيير ديمغرافي جيوستراتيجي، وهي خطيرة على أمن واستقرار البلدين، على نحو يجعل من خسارة المساعدات الأميركية احتمالا أقل فداحة وضررا من القبول بخطّة ترامب.
••يحظى موقف مصر والأردن، ليس فقط باحتضان عربي عام، بل حتى بتشجيع ودفع عربيين للتمسك بمواقف رافضة لمسألة إخراج سكان غزّة إلى البلدين. ما يعني أن تعويضات مالية قد تدفع بها الدائرة العربية، لا سيما الخليجية، لتخفيف أي مفاعيل سلبية لوقف محتمل للمساعدات الأميركية.
••وقف المساعدات الأميركية لمصر والأردن يفقد الولايات المتحدة حليفين استراتيجيين لها في الشرق الأوسط، ويحرمها من أسباب كانت تضغط بها على البلدين. وستشمل تلك الخسارة دولا أخرى في المنطق، ما من شأنه الإضرار بمكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والعالم.

• خلاصة واستنتاجات:

**التقدير الأول يفيد بأنه يجب أخذ خطة ترامب بتهجير سكان غزّة نحو مصر والأردن على محمل الجد، والتعامل معها بمنتهى الصرامة والوضوح.
**تناقض رواية ترامب بشأن اقتراحه بين استيلاء وشراء وعدم إرسال قوات أميركية، واعتراف أركان إدارته بأنها ليست خطّة مدروسة مكتملة الأركان، يجعل من الحدث مجرد مناورة لإثارة الجدل واستفزاز الخطط البديلة، ومع ذلك فهي ليست بعيدة عن أفكار طرحت في ولايته الأولى حملت اسم “صفقة القرن”.
**الخطة يعوزها الاحتضان الغربي ووجود شراكات عربية، وسط أجواء تستبعد التدخل العسكري الأميركي لفرضها، وغياب تمويلات لن يجدها ترامب لدى الدول المانحة الأوروبية والعربية.
**تمنح الخطّة حكومة نتنياهو فرصة ديمومة وبقاء، كما إمكانيات الانقلاب على اتفاق وقف إطلاق النار في غزّة، ودعم أميركي جديد مدعّم بأسلحة كانت محظورة لمواصلة الحرب في غزّة أو في مناطق أخرى في الشرق الأوسط.
**يتميّز موقف مصر والأردن بالحسم والحزم في رفض مشروع نقل السكان إليها، وقد أكد عدم حصول ترامب على موافقة الملك الأردني أثناء لقائهما في البيت الأبيض وإلغاء الرئيس المصري زيارته إلى واشنطن عن قوة هذا الموقف.
**يتميز الموقف العربي، بأنه شامل ومتدرّج وحاسم في رفض خطّة التهجير، مدعوما بإعادة تأكيد السعودية رفضها لأي تطبيع مع إسرائيل من دون قيام دولة فلسطينية. غير أن اللهجة العامة ما زالت دبلوماسية غير عدائية حاضنة لأي حوار مقبل مع ترامب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.