تداعيات المحكمة الدولية اسرائيليا

أمير مخول، مركز تقدم للسياسات

من بين ما تميزت به ردود الفعل والتفاعلات الاسرائيلية على انعقاد محكمة العدل الدولية الامور التالية بالتفاوتات ما بين المستوى الاعلامي والسياسي؛ والمستوى المهني الحقوقي؛ والأمني وسياسات ادارة الحرب.
1. المستوى الاعلامي والسياسي:
ساد الصدمة والذهول من مجرد انعقاد المحكمة ووضع اسرائيل لأول مرة على مقعد المتهمين في هيئة أممية، واعتبار ذلك انتكاسة وهزيمة في جبهة الراي العام الدولي، اذ اعتمدت اسرائيل حملات الدعاية (الهسباراه) والقصد حملة الترويج لروايتها مقابل اعتماد الفلسطينيين لنهج التأثير على الراي العام العالمي من اجل تغييره وتفعيله. كما سادت الصدمة الاوساط الاعلامية والسياسية والترويجية مع اكتشاف ان الرواية الاسرائيلية التي نجحت المنظومة الحاكمة بإقناع المجتمع الاسرائيلي بها بصدقية الحرب، قد تلقت ضربة مفصلية على المنصة الدولية، لدرجة اتهام المحكمة بالتمادي في كونها تنظر في دعوى ضد اسرائيل.
الغضب الشديد وأحيانا الهستيري تجاه دولة جنوب افريقيا وتجاه المحكمة الدولية واعتبار جنوب افريقيا “دولة فاسدة” و”ذراعا قانونية لحماس” و”بتبني خطاب اللاسامية والعداء لليهود” واعتبار قضاة المحكمة الدولية “خاضعين للرشوة ومناوئين لإسرائيل” كما ذكر في قناة “كان” والسعي الى رفض شرعية المحفل الدولي.
الاعجاب بالطاقم القانوني المدافع عن اسرائيل وبأدائه، واعتباره قد فند ادعاءات جنوب افريقيا بخصوص اتهام إسرائيل بالنوايا لارتكاب ابادة جماعية. والاعجاب بالمظاهرات التي نظمتها اسرائيل وانصارها مقابل المحكمة في مواجهة المظاهرات المناصرة للشعب الفلسطيني.
حاز النقاش، هل كان على اسرائيل المثول امام المحكمة والدفاع عن نفسها ام تجاهلها وعدم الاعتراف بها على حيز كبير من الجدل، الا ان الموقف الداعي لعدم المثول تراجع في اليوم الثاني بعد تقديم اسرائيل دفاعها.
تناول الاعلام الاسرائيلي مسألة تصريحات وزراء ونواب وقادة الاحزاب المشاركة بالائتلاف والتي دعت جهارا الى ارتكاب جرائم تصنّف قانونيا بأنها إبادة، ولأول مرة يسعى الاعلام الذي تماهى مع مثل هذه الاصوات من قبل وبعد السابع من اكتوبر، الى مهاجمتها واعتبارها مسيئة للرواية الاسرائيلية الاعلامية والحقوقية على السواء، ورأى بأن اصحاب هذه التفوهات قد ورطوا دولتهم.
اعتبر المستوى السياسي أن الأمر الحاسم هو وقوف الادارة الامريكية الى جانب اسرائيل في الموقف من المحكمة وفي مجلس الامن في حال اتخذت قرارا بإصدار أمر بوقف الحرب. ومع ذلك تخوف المحللون من أن الولايات المتحدة ستكون في وضع محرج للغاية وسوف تتضرر مصالحها في حال استخدمت حق النقض في مجلس الامن لمنع تنفيذ قرارات المحكمة.
اعتبرت الاوساط المذكورة بأن انتداب اهارون باراك رئيس المحكمة العليا سابقا ليكون ضمن طاقم قضاة المحكمة خطوة ذكية وجديرة نظرا للمكانة التي يتمتع بها عالميا بينما هاجمت اوساط في الليكود والائتلاف الحاكم اختياره نظرا لكونه صاحب مواقف عدائية للانقلاب القضائي الذي بادرت اليه الحكومة الحالية وتسبب في ازمة سياسية عاصفة.
شدد الاعلام الاسرائيلي على اعتبار الفلسطينيين وانصارهم في العالم بان انعقاد المحكمة شكل انتصارا معنويا وسياسيا وقانونيا غير مسبوق، كما وشدد على الاجواء الاحتفالية ومظاهرات المناصرة للحق الفلسطيني. قام الاعلام بذلك في مسعى لتأكيد انحياز المحكمة ضد اسرائيل، بل وأنها تشكل منصة لأعدائها.
في اعقاب جلستي المحكمة يومي 11 و12 يناير الجاري، باتت هناك رقابة ذاتية على المفردات والمصطلحات التي يشتبه بانها تدعو لارتكاب جرائم حرب واعمال ابادة، بينما زادت التصريحات التي تدين جنوب افريقيا والفلسطينيين على السواء.

2. المستوى المهني الحقوقي:
انطلق المستوى المهني والحقوقي من ان ادعاءات جنوب افريقيا باطلة وأن اسرائيل هي الضحية وان الحرب فرضت عليها. واعتبرت محاججات جنوب افريقيا ضعيفة لا تصمد الا بسبب تحيز المحكمة، واعتبرت معظم المواقف بأن طاقم الدفاع الاسرائيلي قد فكّك الادعاء وبأن المحكمة لا تملك الحجة لاتهام اسرائيل بارتكاب ابادة جماعية.
وعلى الرغم من ذلك، تحدث العديد من الخبراء في القانون عن قوة الادعاءات التي اوردتها جنوب افريقيا وجدارة الطاقم القانوني الذي مثل هذا البلد، وعن اعتقادهم بأنه لا مناص من ان تقوم المحكمة باستصدار أمر مؤقت ضد اسرائيل وعلى امل ان لا يكون امرا بوقف اطلاق النار وانسحاب اسرائيل من غزة. لكنهم لا يستبعدوا ان يكون قرار بالمطالبة بإتاحة المجال امام النازحين من شمال غزة للعودة الى هذه المنطقة.
اعتبر الخبراء الحقوقيون بأن أية ادانة لإسرائيل ستكون بمثابة وصمة ثابتة تلاحق الدولة وحكامها وقادة جيشها اينما حلّوا، وستكون هزيمة قضائية دولية لها تداعيات سياسية وحقوقية بعيدة المدى.

3. المستوى العسكري والامني:
رغم انه لم يتطرق الى اعمال المحكمة الدولية، يبدو ان المستوى الامني والعسكري هو الاشد قلقا من انعقاد المحكمة الدولية ومن احتمالية اصدار امر بوقف الحرب وقبول اولي لتهمة الابادة الجماعية وذلك حرصا على حماية ضباطه وتوفير حصانة قانونية لهم امام محكمة الجنايات الدولية. لم ينتظر قائد الاركان انعقاد الجلسة، بل بادر قبل انعقادها بأكثر من اسبوع بنداء علني للحكومة بضرورة اتاحة المجال لنازحي قطاع غزة بالعودة الى شماله وذلك لان النزوح القسري المستدام يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي.
كرر الناطق باسم الجيش في إطار احاطاته اليومية عشية انعقاد جلسات المحكمة وخلالها، بأن الجيش الاسرائيلي هو الاكثر اخلاقية في العالم وبأن الجيش لا يستهدف المدنيين وشدد كما رئيس الحكومة على المساعدات الانسانية.
تقدير وخلاصة:
• القلق الاسرائيلي الشامل تجاه انعقاد المحكمة وتتم للمرة الاولى مساءلة الدولة واحتمالية اتهامها بالإبادة الجماعية هو حقيقي وعميق وحتى صادم للراي العام المحلي .
• تتحطم ولأول مرة اعتبارات ان اسرائيل في عين مجتمعها هي فوق المساءلة وفوق القانون الدولي.
• تتصاعد الاصوات الاسرائيلية الداعية لانتخابات فورية نظرا لاعتبار الحكومة “غير مؤهلة لإدارة الحرب ولتحقيق الانتصار”، وذلك بالتزامن، غير المقصود على ما يبدو، مع جلسات المحكمة الدولية والنداء الموقع من 170 من قادة الاركان السابقين ورؤساء الموساد والشاباك والشرطة والداعي لانتخابات فورية واتهام الحكومة ورئيسها بالقصور وبانها تقود الى الهزيمة.
• بمجرد انعقادها شكلت المحكمة الدولية بداية تشكيك ذاتي في الرواية الاسرائيلية وتفككها، ويشكل اهتزازا للقناعة بصدقية الموقف من الحرب وتواصلها المتعثر. لتضاف الى اخفاق السابع من اكتوبر وقصور الحرب عن تحقيق اهدافها.
• هناك مؤشرات تدل على أن اعمال المحكمة تدفع الى تعمق التوتر بين المستويين العسكري والسياسي، بحيث تضع ضباط الجيش في خانة الخطر قضائيا، مما قد يوسع من حالة التذمر بين جنود الاحتياط ويدفعهم للمطالبة بوقف الحرب.
• بدأت تتعالى الاصوات التي ترى بأن حكومة اسرائيل متورطة في حربها وبأنها غير مؤهلة لايجاد مخرج.
• جاء التقدير الصادر عن مصدر رفيع في البيت الابيض ونشرته نيويورك تايمز بأن اسرائيل لا تملك القدرة على الانتصار بالاعتماد على البعد العسكري، وبدأت تعلو المطالب بحلول سياسية تحت مسمى “اليوم التالي للحرب”.
• يشكل انعقاد المحكمة واعمالها حدثا مؤسسا لدى الاسرائيليين ولدى الفلسطينيين ولدى المجتمع الدولي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.