تحوّلات أفريقيا نحو روسيا: تجربة النيجر
د. محمد قواص.
ورقة سياسات، مركز تقدم للسياسات
ملخص تنفيذي:
– تمثل حالة النيجر حلقة في مسار أفريقي يهدف في مفرداته الاستقلالية إلى التخلّص من النفوذ الغربي مقابل تعزيز العلاقات مع دول مثل روسيا والصين وإيران.
– يشمل المسار التخلص من الوجود العسكري الغربي وصولا إلى إبعاد النفوذ الأوروبي الأميركي من اأفريقيا.
– لم تستطع الولايات المتحدة أن تقنع حكام المنطقة بأن تكون بديلا عن فرنسا وأوروبا واضطرت إلى الموافقة على سحب قواتها من النيجر.
– بسبب خيارها الروسي، تذهب النيجر إلى نسج علاقات مع إيران تحت شعار “تضامن ضحايا نظام الهيمنة”.
– من غير الواضح مدى قدرة النيجر وحلفائها على التخلّص من النظام النقدي ومواجهة عقوبات “إيكوس”.
– انسحاب القوات الفرنسية من النيجر رفع من مستوى الهجمات الإرهابية والجهادية من دون وجود بدائل دولية لمكافحة الإرهاب
تقديم:
شكل الانقلاب العسكري في النيجر في 26 يوليو 2023 حلقة منطقية في مسار من هذا النوع عرفته المنطقة. والمفارقة أن الطبقة العسكرية التي أطاحت بالمدنيين واستولت على السلطة في بوركينا فاسو (يناير 2022) ومالي (مايو 2021) وغينيا (سبتمبر 2021) والنيجر العام الماضي هي من صلب الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ استقلالها. وعلى الرغم من الخطاب الاستقلالي للحكام الجدد، غير أن المشهد الدولي العام يكشف انتقال الولاءات من الغرب صوب خصوم مثل روسيا (أو الصين وإيران).
وتسعى سلطات النيجر إلى التخفيف من ضائقة اقتصادية تسببت بها خصوصا إثر العقوبات الاقتصادية التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) منذ الانقلاب العسكري. شكلت النيجر تحالف دول الساحل مع بوركينا فاسو ومالي في سبتمبر 2023 ردا على إجراءات المجموعة التي أعلنت الانسحاب منها في يناير 2024. وقد ذهب التحالف إلى حد مناقشة إنشاء عملة جديدة لتحل محل “الفرنك الأفريقي” الذي فرضته فرنسا في مرحلة الاستعمار على 14 دولة أفريقية. بالمقابل أطلق جلاء القوات الفرنسية العنان للجماعات الإرهابية للعودة للتحرّك في النيجر. وقد اعترفت حكومة نيامي منذ سبتمبر الماضي وعلى مدى الشهور الماضية بمقتل عشرات من جنود النيجر في هجمات حدودية يشنّها إرهابيون وجهاديون.
بيئة الانقلاب: التخلّص من فرنسا:
جاء انقلاب النيجر بعد سنتين من انتخاب محمد بازوم عام 2021 رئيسا للبلاد. وفيما نجحت البلاد حينها بإجراء انتقال سلمي للسلطة، هو الأول منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، فإن الحدث جاء متنافرا مع سياق مضاد في غرب أفريفيا، ما دفع إلى التخلّص من بازوم كآخر رئيس دولة في منطقة الساحل يتم الإطاحة به على خطى بوركينا فاسو ومالي.
وتسعى نخب أفريقيا الشابة والمتعلمة إلى تخليص بلادها من هذه العلاقة المرضية مع المستعمر القديم. تتحمل فرنسا وغيرها مسؤولية النهل من خيرات دول أفريقيا، لكن مسؤولية الفقر والعوز وتنامي معدلات الهجرة هي مسؤولية أنظمة الاستقلال التي ورثت زوال الاستعمار في فترة 1960-1970. ولم يعرف عن هذه الأنظمة إلا النزوع إلى الديكتاتورية والاستحواذ على السلطة والثروة والعمل وفق منظومة فساد فاقمت من مشاعر اليأس لدى شعوب المنطقة منذ عقود.
وأظهرت الانقلابات المتتالية خريطة طريق واحدة:
1-الإطاحة بالأنظمة الحاكمة باسم الاستقلال عن فرنسا والتخلّص من وجودها في المنطقة.
2-الميل العلني باتجاه نسج علاقات متقدمة مع روسيا.
وإثر الانقلاب في النيجر تولى الجنرال عبد الرحمن تشياني مقاليد السلطة في البلاد. كانت أولوية قراراته هي طلب إجلاء القوات الفرنسية التي كانت تعمل لسنوات تحت عنوان محاربة الإرهاب الجهادي في المنطقة.
مزّق الحكم الجديد الاتفاقات الأمنية بين نيامي وباريس ومارس ضغوطا انتهت إلى خروج أخر جندي من قوة فرنسية كان قوامها 1500 جنديا في 22 ديسمبر 2023.
ووفق هذه الأجواء، وعلى الرغم من محاولة فرنسا إبقاء سفيرها في النيجر ورفضها الإذعان لـ “سلطة غير شرعية”، أضطرت باريس في أغسطس 2023 إلى سحب سفيرها بعد شهر من محاصرة مقرّه. لاحقا، في بداية عام 2024أغلقت باريس سفارتها في نيامي “حتى إشعار آخر”.
الابتعاد عن أوروبا:
لم يتوقف الأمر على فرنسا. ففي 4 ديسمبر 2023 طلبت نيامي سحب قوة أوروبية مدنية قوامها 130 فردا تعمل في عملية Eucap Sahel Niger، التي تم إطلاقها في عام 2012، بهدف تعزيز الأجهزة الأمنية في البلاد في الحرب ضد الإرهاب والجريمة المنظمة. كما طلبت وقف المهمة العسكرية الأوروبية التي أنشئت في عام 2022 لمساعدة الجنود النيجريين على محاربة الإرهاب.
وإمعانا في القطيعة مع أوروبا بعد فرنسا، أعلن المجلس العسكري في النيجر في نوفمبر 2023 إلغاء قانون يجرم تهريب المهاجرين. وكان القانون، الذي تمت الموافقة عليه في عام 2015، لسنوات بمثابة حجر الزاوية في استراتيجية مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وهو قانون تم تبنيه إلى جانب الاتحاد الأوروبي في قمة فاليتا في عام 2015.
ويمثّل القرار تمرداً على التفاهمات مع أوروبا بشأن مساهمة دول الساحل في الحد من الهجرة غير الشرعية إلى دول الاتحاد. لكن القرار من شأنه إنعاش “تجارة” كان يعمل عليها طوراق أغاديز بما يضمن استمالتهم إلى الحكم الجديد بعد أن كانوا موالين لحكم بازوم. كما أن الأمر يمثل نشاطا اقتصاديا تحتاجه البلاد بعدا تراجع مداخيلها السياحية بسبب عودة أنشطة الحركات الجهادية. ويوفّر قرار اسقاط القانون مادة ابتزاز لأوروبا وضغوط على بلدان الاتحاد بما يتوافق مع مصالح روسيا الجيوستراتيجية.
الانتهازية الأميركية: الخوف من تمدد روسيا:
منذ بدء الانقلاب في 26 يوليو ظهر أنّ للولايات المتحدة موقفاً مختلفاً ملتبساً غامضاً في التعامل مع الحدث لجهة عدم استخدام كلمة انقلاب وانقلابيين، ولجهة أخذ مسافة من الخطاب العسكريتاري الذي صدر عن مجموعة “ايكواس” ودول إفريقية أخرى وقوبل بدعم وتأييد فرنسيين. استنتجت واشنطن أن لا شيء يمنع انتقال عدوى مالي وبوركينا فاسو الحدوديتين إلى النيجر، لجهة الانتقال الحاد باتجاه معسكر روسيا تحت جناح مجموعة “فاغنر”.
وقد عجّلت الولايات المتحدة حينها بإرسال الديبلوماسية الرفيعة فيكتوريا نولاند، وعلى نحو غير متوقع، باتجاه النيجر. كشف الحدث الأهمية التي توليها إدارة الرئيس جو بايدن للنيجر داخل خريطة أجندة الولايات المتحدة في أفريقيا، والسعيّ إلى انتهاج مقاربة عاجلة ونوعية تكون بديلاً من التهويل الذي صدر عن فرنسا و “ايكواس”. وبدا واضحاً أنّ واشنطن لا تريد أن تخسر نيامي.
صَاحَب زيارة نولاند إلى النيجر تصريح لوزير الخارجية أنتوني بلينكن يؤكّد على ضرورة استعادة العملية السياسية الدستورية وعودة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة. لكن وصولها إلى النيجر وجه بالمقابل رسالة إلى الانقلابيين تكشف عن المستوى السياسي الذي قرّرته واشنطن لمخاطبتهم والتعامل مع أزمة بلدهم. فلم ترسل واشنطن موظفاً عادياً أو سفيراً في وزارة الخارجية على ما درجت عليه لمعالجة أزمات كبرى مثل ليبيا واليمن وغيرها. فارتأت، بناءً على قراءة مكثّفة لمؤسسات القرار المختصة في الأمن والدفاع والديبلوماسية، التعامل مع القضية على نحو مختلف.
ومع ذلك فإن خيارات السلطة الجديدة في نيامي بالاتجاه صوب روسيا والشرق لم تتراجع أمام الإغراءات الأميركية بما اضطر واشنطن نفسها إلى التراجع.
فبعد قرار النيجر في مارس 2024 الانسحاب من اتفاقية تعاون عسكري موقعة عام 2012 مع الولايات المتحدة، معتبرة أن واشنطن “فرضتها أحادياً”، وافقت الولايات المتحدة في 19 أبريل الجاري على سحب قوّاتها البالغ قوامها أكثر من ألف جندي من النيجر. وأُعلن عن موافقة نائب وزير الخارجيّة الأميركي كورت كامبل، على طلب سلطات نيامي سحب القوّات، وذلك خلال اجتماع في واشنطن مع رئيس الوزراء علي الأمين زين. وينص الاتفاق على إرسال وفد أميركي إلى النيجر خلال الأيام المقبلة للاتفاق على تفاصيل الانسحاب.
خيار روسيا النهائي:
ظهر منذ الساعات الأولى لانقلاب النيجر أن الخطاب المعادي لفرنسا هو انخراط في الصراع الدولي يعيد تموضع النيجر، كما البلدان المجاورة، بالانتقال إلى المعسكر المقابل الذي توفّره روسيا والصين في أفريقيا. ظهر ذلك حين رفعت المظاهرات المؤيدة للانقلاب ضد الرئيس بازوم في نيامي أعلام روسيا. حتى أن بازوم في مقاله في الـ “واشنطن بوست”، في اغسطس 2023، حذر من “أن تقع منطقة الساحل الوسطى بأكملها في يد النفوذ الروسي”.
ولم يكن أمر الالتحاق بالمعسكر الروسي مفاجئا. كانت روسيا حاضرة في القارة السمراء في السنوات الأخيرة وبرزت على نحو علني أنشطة مجموعة “فاغنر” في أفريقيا عامة وبلدان الساحل خاصة. وكما حال ما فعله الحكام العسكريون الجدد في مالي وبوركينا فاسو، فإن حكام النيجر الجدد جاهروا منذ بدايات الانقلاب بالكشف عن تموضع البلاد الجديد.
فمقابل “التخلّص” من فرنسا ونقض اتفاقيات التعاون الأمني السابقة مع الأوروبيين، ظهر تواصل السلطات الجديدة مع موسكو. في 4 ديسمبر 2023 استقبل الجنرال تشياني بحفاوة بالغة نائب وزير الدفاع الروسي، العقيد يونس بك يفكوروف. تحدثت تقارير عن أن يفكوروف نفسه يقود أنشطة “فاغنر” في أفريقيا بعد مقتل مؤسسها يفغيني بريغوزين.
أعلنت الحكومة النيجرية “تعزيز التعاون في مجال الدفاع” مع موسكو والتوقيع على بروتوكول، لا تزال محتوياته سرية. كما التقى نائب الوزير يفكوروف بوزير دفاع النيجر، الجنرال ساليفو مودي، الذي يعتبر الرجل القوي الثاني في البلاد. وتناولت المحادثات بشكل خاص “مشاريع التنمية الخاصة بمالي في مجال الطاقات المتجددة والطاقة النووية” بالإضافة إلى “مسائل مرتبطة بتزويد مالي بالأسمدة والقمح والمنتجات النفطية”، حسبما قال وزير الاقتصاد والمالية في مالي الحسيني سانو. وأشار سانو كذلك إلى مشروع تنفيذ سكة حديد وشبكة ترام وتأسيس شركة طيران إقليمية، بالإضافة إلى مشاريع تعدين.
وتعتمد روسيا في مدّ علاقاتها في أفريقيا على زاد تاريخي يعود إلى مرحلة الاتحاد السوفياتي. فخلال مرحلة إنهاء الاستعمار، ابتداء من عام 1950، أقامت موسكو علاقات وثيقة مع العديد من الدول الأفريقية ودعمتها في نضالها من أجل الاستقلال. وقد دربت موسكو العديد من القادة والنخب الأفريقية.
غير أن النزوع نحو روسيا فتح المجال لفتح علاقات جديدة مع إيران. ففي يناير 2024 استقبل نائب الرئيس الإيراني رئيس الوزراء النيجيري علي أمين زين في طهران. جرى توقيع شراكات في مجالات الطاقة والصحة والتمويل تحت عنوان تبادل المساعدات بين “ضحايا نظام الهيمنة الغربية”. قال زين بعد التوقيع على الاتفاقات المشتركة:” تعتزم النيجر بث حياة جديدة في التعاون مع الجمهورية الإسلامية”. والواضح أن توطيد علاقات النيجر مع دول مناهضة للغرب هو خيار حاسىم، فيما بالمقابل تحتاج موسكو وطهران للدول الأفريقية إلى دعم سياستهما الدولية لا سيما تلك الدبلوماسية داخل منظمة الأمم المتحدة.
خلاصة واستنتاجات
**تمثّل ظاهرة الانقلابات العسكرية بما فيها تلك في النيجر فشلا لدول الاستقلال ولاستمرار علاقة هذه الدول بدول الاستعمار. كما تعبّر هذه الظاهرة عن استفادتها من بيئة شعبية حاضنة للأفكار والسياسات المناهضة لفرنسا وأوروبا والولايات المتحدة حتى من خلال المجالس العسكرية.
**نجحت النيجر وبقية بلدان “تحالف دول الساحل” من اتخاذ إجراءات حازمة تبعد البلد عن الوصاية الغربية وتفرض انسحاب قوات فرنسية وأوروبية وأميركية وتسعى لإيجاد إطار بديل لإقامة اقتصادات مستقلة. غير أن الأمر ما زال في مرحلة التجربة ولا يمكن الجزم في امتلاك مقومات النجاحات المؤكدة.
**تعيد النيجر تموضعها الدولي داخل المعسكر الروسي ما يجعلها، رغم خطاب حكامها الجدد السيادي الاستقلالي، داخل صراع دولي واستقطاب موالٍ لموسكو بما قد يفرضه من التزامات.
**من المبكّر الجزم في قدرة النيجر وحلفائها في المنطقة على التغلّب على التحديات الاقتصادية كما تلك الأمنيّة التي تسبّبها عودة الأنشطة الأرهابية الجهادية بعد انسحاب القوات الغربية.
**من غير الواضح مدى قدرة النيجر على مواجهة ضغوط فرنسية غربية لها امتداداتها في أفريقيا في السعي لاستعادة النفوذ الغربي لمكافحة النفوذ الروسي في القارة السمراء.
**من المفيد أن تجد دول النفوذ العربي مساحات لها في النيجر ودول الجوار مستفيدة من مرحلة تحوّلات غير نهائية.