بعد اتفاق سلام لإنهاء الحرب في إقليم تيغراي: هل بات التدخل الارتري عبئا على أثيوبيا
تقرير: وحدة سياسات القرن الافريقي
تقديم:
رغم ان الحرب بين التيغراي والحكومة المركزية وضعت أوزارها، بتوقيع اتفاق السلام ووقف إطلاق النار، إلا أن الرئيس الارتري أسياس أفورقي، لديه مخاوفه وهواجسه، ان يعيد الاتفاق فتح شهية أشقائه الأعداء في القومية التغرينية إثارة القلاقل والانقلاب عليه وعلى حكمة الاستبدادي، ولهذا سيبقي العيون مفتوحة على اليات تطبيق اتفاق نزع السلاح مع جبهة تيغراي وإعادة سيطرة الحكومة الكاملة على مقدرات الإقليم المتمرد. حكام أسمرة الذين خبروا استخدام حركات التمرد في دول الجوار لمدة تقترب من ثلاثين عاما، يدركون جيدا أن حكومة أديس أبابا تعيش لحظات حرجة ومتوترة في علاقاتها مع مختلف القوميات التي تشكل فسيفساء البلاد، وان قيام الدولة المركزية دونه مصاعب شتى ، خاصة مع القوميتين الكبيرتين الامهرا والاورومو، وان خارطة تحالفات ابي احمد لم تستقر بعد .
خلفية الصراع بين ابناء الاثنية الواحدة.
من غير الممكن فهم الصراع الدموي الذي جرى في إقليم التيغراي على الحدود الارترية دون التطرق الى الخلفية التاريخية لنشأة الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي تأسست في سبعينيات القرن الماضي. غير هدف الشباب الثائر في التصدي للتهميش الذي وقع على قوميتهم التي تعرف بالتيغري في اثيوبيا نسبة للإقليم. وهي ذات الاثنية التي تعرف بالتغرينية في ارتريا نسبة الى اللغة.
في بداية النصف الثاني من سبيعنيات القرن الماضي، بدأت افواج من التغرينية في ارتريا بالانضمام الي حركات الكفاح المسلح بعد سقوط نظام الامبراطور هيلاسلاسي، ووجد ابناء الاثنية الواحدة أنفسهم في ساحة المعركة. لكن صحبة النضال المشترك لم تنجح في خلق التوافق والوحدة الحقيقية، على الرغم من التنسيق العسكري الذي فرضته ضرورات المواجهات مع الحكومة الاثيوبية المدعومة من المعسكر الاشتراكي. فالخلافات كانت عميقة تطل بين فينة وأخرى، سياسية وثقافية وفكرية.
انتهت مرحلة الكفاح المسلح عام 1991 بسيطرة الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي على العاصمة أديس ابابا، وانتصار معركة الاستقلال التي قادها اشقاءهم في الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا واحتلال العاصمة اسمرة. لكن فرحة الانتصار لحركتين تتشاركان ذات اللغة والاصل العرقي لم تكن كافية لعلاقات تؤسس لبناء أجواء من الثقة والاستقرار والتنمية المستدامة. اذ سرعان ما اندلع التوتر المسلح على جانبي الحدود لمطالب تاريخية حول الارض، وصولا الي اشتعال الحرب بينهم في العام 1998، واستمرت عامين دمويين. لكن هذه الحرب التي أسست لسقوط حكم أقلية التيغراي في اثيوبيا، السقوط الذي كان وبالا على الشعب الارتري. فقد تحولت البلاد من دولة الحزب الواحد الي دولة الرجل الواحد مما دفع الي الجزم بان الخلاف بين الطرفين اختزل في دوافع الرجل الواحد واحلامه.
في تفسير خلفية العداء، بعض الدارسين يعيدون ذلك الى المخاطر التي يحملها نموذج الفيدرالية الاثنية الذي اختاروه لأثيوبيا والذي اعتبره الرئيس أسياس أفورقي وصفة للتقسيم، ليس لأثيوبيا وحسب وانما لإريتريا ذات التنوع العرقي والديني أيضا، فيما يقول رأي اخر بأن العداء مرده الى حالة العزلة التي فرضت على أفورقي بسبب الضغوط الدولية والإقليمية المقاطعة والحصار والمشاكل التي تسبب بها مع العديد من دول الجوار ودعمه لحركات التمرد والانفصال فيها . في حين نجح قادة التيغراي حكام اديس ابابا في كسب دول العالم والجوار لصالحهم.
جاء توقيع اتفاق السلام بين أثيوبيا وإرتريا عام 2018، لينهي قطيعة امتدت لعشرين عاما. لكن ذلك لم يكن ليتحقق لو لم يؤسس وصول ابي احمد لمنصب رئيس الوزراء، وإزاحة التيغراي من السلطة في اثيوبيا والذي استمر لـ 27 عاما. ومع طي صفحة حكم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي ومعها حكم تحالف الجبهة الديمقراطية لشعوب اثيوبيا، أصبح الطريق معبدا للرئيس الارتري أسياس أفورقي كي يقوم بتصفية حساباته مع غرمائه من قادة جبهة التيغراي. وسط مخاوف من خطورة ان تؤدي هذه السياسة الى استثارة قومية التيغراي وليس السياسيين منهم فحسب، وهو ما حصل بالفعل. فقد أصبحت ارتريا عنصرا أساسيا في المعادلة الاثيوبية بنفوذها العسكري والسياسي وتحالفها مع قومية الامهرا .
ارتريا شريكا في حرب التيغراي
بحسب الرواية الرسمية الاثيوبية فإن قوات اقليم تيغراي قامت بمهاجمة الوحدة الشمالية للجيش الاثيوبي والتي كانت تتمركز في إقليم تيغراي وهي أقوى وحدات الجيش الاثيوبي، مما استدعى الرد العنيف واشتعال الحرب. منذ الايام الاولي للمعركة، اتهمت الحكومة الارترية جبهة تحرير تيغراي بأطلاق صورايخ على أراضيها، سقط أحدها قرب العاصمة اسمرة. وقد استغل الجيش الارتري الفرصة لاستعادة مدينة “بادمي” الحدودية التي كانت موضع نزاع قبل حرب عام 1998، والتي رفضت الحكومة الاثيوبية حينها الانسحاب منها بالرغم من ان التحكيم الدولي اقر بالسيادة الارترية عليها.
في خضم المعركة، تم الاعلان عن تحالف جديد أطلق عليه “قوات دفاع تيغراي” يضم الي جانب جبهة تحرير تيغراي الاحزاب السياسية الاخرى وهي حزب “ويناي 3 “وحزب “المؤتمر -بايتونا –” وحزب “تحرير تيغراي”، استطاع التحالف توحيد صفوف ابناء التيغراي وحمل لواء التصدي لمحاولات ابادة عرقية بحسب تعبيرهم. الامر الذي قد يشكل صدعا جديدا لاختراق القومية التيغرانية ، وتخريب إتفاق السلام الذي وقعته الجبهة منفردة .
الخطر الاخر على اتفاق السلام يتمثل في ضرورة كسب الحكومة إجماعا لدى قومية الأمهرا بكل مكوناتها الاجتماعية والسياسية. فقد شارك حراك الامهرا في المعركة ضد الانفصاليين الشماليين، وهم الذين حكموا البلاد لمئات السنين وطبعوا البلاد وهويتها ولغتها بختم قوميتهم. وتمكنت من السيطرة على مناطق “ولقايت” المتنازع عليها مع التيغراي والتي تقع على طول الشريط الحدودي بين اقليم تيغراي والسودان، تم ذلك بدعم من الجيش الارتري الذي شارك في تلك الجبهة وفي جبهات اخرى الى جانب الجيش الاثيوبي. استمرت الحكومة الاثيوبية في بادئ الامر في إنكار مشاركة الجيش الارتري في المعارك، لكنها ما لبثت ان التزمت الصمت بعد ان بدأت التقارير تنتشر عن تورط الجيش الارتري في جرائم قيل ان بعضها يرقي الي جرائم حرب، الامر الذي دفع الامين العام للأمم المتحدة انتونيو جوتيريش للمطالبة بشكل مباشر، بانسحاب الجيش الارتري من اقليم تيغراي وكذلك الدعوات المماثلة التي صدرت من الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الاوروبي. كما ان بنود الاتفاق الخاص بنزع سلاح جبهة تحرير تيغراي في جنوب افريقيا وكينيا، تشير بشكل مباشر الى دور للقوات الارترية، بعبارة “قوات اجنبية” في بروتوكل اتفاق نزع السلاح وبعبارة “قوات معادية” في اتفاق السلام، وفيما نصت فقرة صريحة على ان ” نزع سلاح جبهة تحرير تيغراي مشروط بانسحاب تلك القوات”.
بعد توقيع اتفاق السلام، كيف ستتمكن أديس ابابا من مشاركة هذا الإنجاز مع حلفائها الذين شاركوها الحرب وهما الحراك الأمهري والحكومة الارترية. يقول ارمان كوهين مساعد وزير الخارجية الامريكي السابق للشؤن الافريقية وعراب محادثات لندن التي مهدت لدخول الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي اديس ابابا والارترية اسمره عام 1991، ان القوات الارترية لن تقوم بالانسحاب من تيغراي قبل ان تتأكد من ان كيان جبهة تحرير تيغراي قد انتهى سياسيا وعسكريا وان قادة الجبهة باتو خارج المعادلة السياسية. هذا التعليق يأتي من رجل عاصر قادة الجبهتين في مرحلة حساسة من تاريخ المنطقة اشارة واضحة الي ان الاجندة الخاصة بالرئيس الارتري أفورقي هي صاحبة الكلمة الاخيرة في حسم الصراع مع جبهة تحرير تيغراي، وان الجانب الشخصي في الصراع هو الذي وجه دفة الخلاف في مراحله المختلفة.
جبهة تيغراي واشكالية التمثيل :
توقيع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي لاتفاق جنوب افريقيا مع الحكومة، اثار جدلا حول اسباب اقصاء القوى السياسية الاخرى في تيغراي والتي شكلت مع الجبهة قوات دفاع تيغراي. وعند سؤال المتحدث باسم قوات دفاع تيغراي، جيتاشو ردا عن ذلك، قال “اننا ذهبنا للتفاوض باسم حكومة اقليم تيغراي التي انتخبت في العام 2020، ولكن الحكومة الاثيوبية رفضت هذه الصفة وكانت العلة ان الانتخابات جرت دون موافقتها، فما كان علينا الا التفاوض باسم الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي” واضاف “ان الوفد تشكل في معظمه من شخصيات لا تنتمي للجبهة”. قد لايكفي هذا التبرير لطمأنة القوى الاخرى من مخاوف التهميش والاقصاء، خاصة وأنها عبرت صراحة عن السلوك البوليسي للجبهة للاستئثار بتمثيل الاقليم. وعلى وقع هذه الاحداث والتي تبدو ان توضيحات جيتاشو ردا لن تفلح في وقف تداعياتها، حيث يواجه اقليم تيغراي خطر الاصطفاف والفرقة على نحو لن يمكن من توفير الحشد الذي توفر لإنشاء قوات دفاع تيغراي مجددا.
الخلاصة:
على الحكومة الاثيوبية إشراك ارتريا في عملية السلام التي تم التوقيع عليها، وذلك بهدف خروج سلسل للقوات الارترية من اقليم تيغراي . والامر الاخر والجوهري، ضمان تفاهم يفضي الي ان يصبح حراك الامهرا العسكري جزءا من المؤسسة العسكرية الرسمية، ولن تكون المهمة سهلة، لكن ذلك مطلب اساسي لتحقيق سلام حقيقي. فالامهرا يشعر بعض نخبهم السياسية ان مشروع ابي احمد هو هدم مركزية دورهم التاريخي كما فعل مع التيغراي ، خاصة وانه بات يتعين عليه الاذعان لمطالب الحكومة بالخروج من مناطق “ولقايت” المتنازع عليها. وفي الجانب الاخر بات عليهم الاقرار بان مركزية “شوا” حيث العاصمة اديس ابابا اصبحت الان ضمن نفوذ اقليم الاورومو وان عليهم انشاء مركزية في اقليم الأمهرا اسوة بالتيغراي الذي قاموا بلملمة مشروعهم السياسي المتبقي لهم في مواجهة التهديد الارتري.
اثيوبيا تقف اليوم على مفترق طرق، ولا خيار غير انجاز التحول بالبلاد نحو الدولة المركزية الواحدة وبناء الهوية الوطنية الجامعة ودولة لكل مواطنيها المتساوون في الحقوق، على حساب الهويات الفرعية، وهو المشروع الذي يحتاج الى موارد ضخمة وحلول جذرية وتوافق وطني شامل لتصفية المظلوميات التاريخية التي تسبب بها نظام حكم الامهرا ثم التيغراي ، والخيار البديل هو أن تنفتح الأبواب على حروب أهلية لا تنتهي بين القوميات الا بالتقسيم. ولا ترى هذه الورقة من خيار غير اصلاح النظام السياسي برمته وبتوزيع عادل للثروة والسلطة، وقيادة مشروع إقليمي لكل دول القرن الافريقي المجاورة، وفي المقدمة دولة ارتريا، من اجل تنمية شاملة في كونفدرالية اقتصادية، تعود بالفائدة على كل شعوب القرن الافريقي، وتنقذ غالبية هذه البلدان من ارث استعماري وضع حدودا مصطنعة، واسس لصراعات حدودية واثنية وحروب لا تنتهي