بعد أحداث “الساحل” السوري.. عوامل اتفاق بين دمشق وموسكو

ورقة سياسات:

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ملخص تنفيذي:

-أثارت أحداث “الساحل” السوري شكوكا بشأن ضلوع روسيا، لكن تلك الأحداث كشفت مع ذلك مصلحة مشتركة لدى دمشق وموسكو في التقارب وتعزيز العلاقات بينهما.
-تتحرك روسيا في العلاقة مع دمشق وفق دوافع استراتيجية تتعلق بموقع موسكو الدولي ومستقبل سياساتها الشرق أوسطية.
-تدفع حوافز متعددة النظام السياسي الجديد في سوريا إلى عدم القطيعة مع روسيا وتجنّب استعدائها، إضافة إلى وجود نصائح عربية لدمشق بإبرام اتفاق مع موسكو.
-يزيل تقارب ترامب وبوتين عراقيل دولية من أمام بقاء روسيا في سوريا، فيما لإسرائيل مصلحة في وجود روسي هناك لتعديل موازين القوى المتعلق بنفوذ تركيا في سوريا.

تقديم:

توقف المراقبون عند قيام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ببعث رسالة إلى الرئيس السوري، أحمد الشرع، في 20 مارس 2025، يعبّر فيها عن دعمه للجهود الرامية إلى استقرار الوضع في البلاد واستعداد موسكو “للمشاركة في تعاون عملي”. واعتبروا أن الرسالة تعيد تنشيط المفاوضات بين البلدين من أجل التوصل إلى اتفاقات تنظّم العلاقة الجديدة بينهما. وكان بوتين أجرى أول اتصال مع الشرع في 12 فبراير 2025، بعدما زار مبعوثه إلى الشرق الأوسط، ميخائيل بوغدانوف، دمشق، في 29 يناير 2025 (أي في نفس يوم تعيين الشرع رئيسا لسوريا). وفيما قد تظهر نصائح ضاغطة على الإدارة السورية بالذهاب صوب هذا الاتفاق، فإن ظروفا وعوامل جديدة ظهرت وباتت تدعم أوراق بوتين في بقاء قوات ونفوذ بلاده في سوريا.

أحداث “الساحل”: دور موسكو:

أثارت الأحداث التي انفجرت، في 6 مارس 2025، في منطقة “الساحل” غرب سوريا، أنباء عن أدوار تلعبها روسيا من خلال هذه المنطقة المطلة على البحر المتوسّط والتي تتواجد بها قاعدتيها العسكريتين: قاعدة حميميم الجوية، وقاعدة طرطوس البحرية. وتحدثت تلك الأنباء عن تورّط روسيا في دعم فلول النظام السابق في محاولتهم للانقلاب على النظام السياسي الجديد في سوريا، من خلال عملية منسّقة كبرى.
تحدثت سيناريوهات أخرى عن أن العملية كانت تهدف إلى السيطرة على منطقة “الساحل” وجعلها كيانا منفصلا ومتمرّدا على السلطة المركزية في دمشق بدعم من روسيا ومن خلال القاعدتين الروسيتين في المنطقة. وراحت بعض التحليلات تعتبر أن موسكو يهمها، في حال نجاح فلول النظام السابق في السيطرة على “الساحل”، استمرار وجود قواعدها العسكرية في غرب سوريا، خصوصا إذا ما فشلت مفاوضاتها مع النظام الجديد في تحقيق ذلك.
غير أن سرعة إحباط العملية العسكرية لفلول النظام السابق من قبل القوى الأمنية التابعة للإدارة الجديدة في سوريا، بدّدت كثيرا من هذه الفرضيات، وبقيت أنباء ضلوع روسيا بالعملية من غير أي أدلة، وقد نفتها مصادر موسكو، ولم يصدر بشأنها أي اتهام رسمي من قبل الإدارة الجديدة في دمشق. إلا أن المواجهات التي أدت إلى سقوط مئات القتلى في صفوف القوى الأمنية التابعة للإدارة الجديدة في سوريا كما في صفوف فلول النظام السابق، أدت أيضا إلى سقوط مدنيين في صفوف الطائفة العلوية قدرت تقارير عددهم بما يفوق الألف ضحية، فيما لجأت أعداد من المدنيين العلويين إلى قاعدة طرطوس الروسية، وقدرت أعدادهم بحوال 1500 شخص، إضافة إلى تقارير تحدثت عن وجود مسؤولين وضباط تابعين للنظام السابق داخلها.

دوافع موسكو وحوافز دمشق:

للمفارقة، فإن حدث “الساحل” لم يبرّد من زخم تواصل موسكو مع دمشق من أجل التوصل إلى تفاهمات ترقى إلى مستوى اتفاقات بشأن مصير القاعدتين العسكريتين الروسيتين، كما مستقبل العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية بين العاصمتين. وللمفارقة أيضا، فإن دمشق، ورغم مزاعم حمايةٍ تقدمها روسيا لفلول النظام في “الساحل” إضافة إلى وجود قادة من النظام السابق، بما فيها الرئيس المخلوع السابق الأسد، على الأراضي الروسية، فإن الطرف السوري استمر بالتواصل مع موسكو ومواصلة التفاوض والحوار.
وتلتقي دمشق وموسكو على مشترك يرفض القطيعة ويعمل على إدارة شكل العلاقة الجديدة بين روسيا والنظام السياسي الجديد في سوريا. وقد أظهرت موسكو براغماتية سريعة في التعامل مع الإدارة الجديدة في دمشق بعد سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر 2024، وسط معلومات ما زالت ضبابية بشأن ضلوع محتمل لروسيا بتسهيل اندفاع قوات “هيئة تحرير الشام” بقيادة أبو محمد الجولاني، آنذاك، بعد بدء هجومها في 27 نوفمبر 2024 باتجاه العاصمة السورية، من ضمن تفاهمات جرت تدبيرها مع تركيا. وقد عبّرت روسيا مبكّرا عن استعدادها للتعاون مع الحكم الجديد، فيما عبّر الشرّع مبكرا أيضا عن تثمينه للعلاقات التاريخية بين البلدين ورفضه لقطيعة “غير لائقة” مع روسيا.

سمات دوافع روسيا:

1-الحفاظ على مكتسبات ونفوذ ومصالح تمتلكها موسكو منذ عهد الاتحاد السوفياتي في سوريا منذ عهد الرئيس السوري حافظ الأسد. ولطالما تمسّكت روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين بالعلاقة مع سوريا في عهد بشّار الأسد، وخصوصا بعدما فقدت موسكو علاقات قديمة مع ليبيا كانت تنسجها في عهد معمر القذافي، وتخلّفت في مجلس الأمن عن منع قرار يشرّع هجمات غربية ضد حكمه عام 2011.
2-الاحتفاظ بقاعدة طرطوس البحرية التي تمتلك اتفاقات بشأنها منذ عهد الاتحاد السوفياتي كما الاحتفاظ بقاعدة حميميم الجوية التي أبرمت اتفاقا بشأنها مع نظام الرئيس السابق بشّار الأسد بمواكبة تدخل روسيا العسكري عام 2015. وتعتبر روسيا القاعدتين أصولا استراتيجية شديدة الأهمية، تتيح لها الإطلالة على البحر المتوسط، وخدمة انتشارها العسكري في ليبيا وبعض مناطق أفريقيا، لا سيما في منطقة الساحل. ويعبّر الوجود الروسي في هاتين القاعدتين عن جانب من جوانب انتشار نفوذ روسيا الدولي في عزّ المواجهة مع الغرب من خلال الحرب في أوكرانيا.
3-تمثّل سوريا بالنسبة لروسيا موطئ قدم “تقليدي” يعزّز سياساتها تجاه الشرق الأوسط والعالم العربي، بما يعني أن فقدان نفوذها في سوريا، وخصوصا قاعدتيها العسكريتين هناك، يضعف موقعها في المنطقة ويوهن أجنداتها في مقاربة العلاقة مع تركيا وإسرائيل والدول العربية، لا سيما دول الخليج.

سمات دوافع الحكم الجديد في سوريا:

1-لا تمتلك الإدارة الجديدة علاقات سوية مع دول العالم، لا سيما الدول الكبرى، بما لا يتيح لها المخاطرة في قطع علاقاتها مع دولة أساسية في العالم، تملك سوريا معها علاقات قديمة. ورغم توجّس النظام الجديد من دور موسكو السابق في دعم نظام الأسد ومنحه حاليا لجوءً انسانيا له ولعائلته، إلا أن دمشق تسعى إلى شراء الوقت لتحسين شروط اتفاق جديد مع موسكو.
2-تدرك الإدارة الجديدة أن موسكو تمتلك علاقات شراكة وتحالف مع الصين وإيران ودول الجنوب، كما تمتلك علاقات خاصة مع إسرائيل، كما أنها دولة من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي تملك حق النقض، ما يعني أن النظام السوري الجديد يحتاج إلى موقف روسي داعم في المشهد الدولي، أو على الأقل غير معرقل لسعيّ دمشق للحصول على اعتراف دولي، لا سيما داخل مجلس الأمن.
3-في ظل تعدّد وتناقض أجندات الدول المعنية بالشأن السوري، وبعضها متواجد عسكريا فوق الأراضي السورية، فإن من مصلحة دمشق الحفاظ على موازين قوى بين هذه الدول، ما من شأنه تخفيف الضغط على الإدارة الجديدة، وتأجيل أي اصطفاف سوري محتمل داخل المشهد الدولي الكبير.
4-تعتقد دمشق بأن روسيا تمتلك أوراق ضاغطة على استقرار الحكم الجديد من خلال استضافتها لقادة النظام القديم، وعلاقتها بفلول النظام في سوريا، او بتحالفها مع إيران وأذرعها، ما يجعل من الاتفاق مع موسكو عاملا من عوامل عدم استعداء موسكو، وتشجيعها على الاستثمار بشكل إيجابي متعاون مع العهد الجديد.

روسيا في سوريا: روافع التحوّلات:

رغم أن الاتحاد الأوروبي وبعض العواصم الأوروبية الكبرى، خصوصا باريس وبرلين ولندن، جاهروا بالطلب من الإدارة الجديدة في سوريا بمنع استمرار الوجود العسكري الروسي في سوريا، ولمّحت بعض هذه العواصم برهن رفع العقوبات الأوروبية الكاملة بتنفيذ مجموعة من شروط الحوكمة وشرط إغلاق القواعد العسكرية الروسية في البلاد، غير أن ظروفا عديدة، لا سيما تحسّن علاقات موسكو وواشنطن في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مقابل توتّرها بين واشنطن وأوروبا، أعادت تقوية أوراق موسكو في سوريا، ورفعت من احتمالات التوصل إلى اتفاق مع دمشق يبُقي نفوذ روسيا وقواعدها العسكرية، وإن ربما بقواعد وشروط جديدة. ويظهر ذلك من خلال العوامل التالية:

1-فرضَ تقارب واشنطن مع موسكو من أجل وقف حرب أوكرانيا تفاهمات قد تتجاوز هذه المسألة لتطال ملفات ذات اهتمام مشترك في العالم. وكان الاتصال بين ترامب وبوتين، في 18 مارس 2025، قد أسفر، إضافة إلى مناقشة المسألة الأوكرانية، عن الاتفاق على “التعاون في قضايا الشرق الأوسط”، ما يشي بأن واشنطن لن تعارض استمرار النفوذ الروسي في سوريا وحتى التشجيع عليه، وربما جعله عاملا من عوامل تعامل واشنطن الإيجابي مع دمشق في ظل رئاسة الشرع.
2-صدرت تقارير متعدّدة في إسرائيل تكشف عن تشجيع الحكومة، برئاسة بنيامين نتنياهو، على بقاء الوجود العسكري الروسي في سوريا لسببين:

-أولاً، لأن تجربة التنسيق العسكري بين إسرائيل وروسيا، والتي سبقت بدء التدخل العسكري الروسي، في سبتمبر 2015، كانت ناجعة، على نحو أتاح لإسرائيل تنفيذ هجماتها داخل سوريا خلال السنوات الأخيرة من دون معارضة روسية جادة.
-ثانياً، لأن بقاء التواجد العسكري الروسي من شأنه خلق توازن مع التواجد العسكري التركي في سوريا والذي يقلق إسرائيل، ناهيك من احتمال أن يخلق تنافس في المصالح بين موسكو وأنقرة تستطيع إسرائيل المناورة بينهما في التعامل مع الشأن السوري.

3-رواج تقارير عن قلق عربي، لا سيما خليجي، من مستقبل النفوذ التركي في سوريا وعلى نظام الحكم الجديد في هذا البلد. تفصح التقارير عن ضغوط عربية تشجع دمشق على الاتفاق مع روسيا وإبرام اتفاقات تبقي التواجد العسكري الروسي في سوريا. وكانت بعض التحليلات رجّحت أن السعودية تقف وراء تشجيع الرئيس الشرع على مواصلة الحوار مع الرئيس الروسي والتعامل بإيجابية مع رسالته الأخيرة وعروضه بتوسيع التعامل الاقتصادي مع سوريا.
4-تتحدث تقارير أميركية عن استمرار ميل الرئيس ترامب إلى سحب القوات الأميركية من سوريا، بما يجعل من الوجود الروسي حاجة تسهّل هذا الانسحاب، لا سيما في عملية دمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الكردية داخل هياكل الدولة السورية الجديدة، وتأمين سجون مقاتلي داعش باتفاق لاحق تكون تركيا جزءا منه.

خلاصة واستنتاجات:

**رغم الشكوك بضلوع روسيا بأحداث “الساحل”، فإن نفيّ موسكو وعدم إثارة دمشق لهذا الاحتمال، عزّز الاعتقاد بوجود مصلحة مشتركة في إيجاد صيغة جديدة للتعاون بين البلدين.
**لروسيا مصلحة في استمرار علاقاتها التاريخية مع سوريا ووجودها العسكري داخل قاعدتين تطلان على البحر المتوسط ما بعزّز موقفها الجيوستراتيجي داخل المشهدين الإقليمي والدولي.
**لدمشق مصلحة في عدم استعداء موسكو وتعطيل إمكانات دعمها محاولات إيران وفلول النظام القديم من المشاغبة على العهد الجديد.
**لا تملك دمشق ترف القطيعة مع دولة كبرى كروسيا تمتلك حق النقض في مجلس الأمن وتمتلك علاقات متقدمة مع الصين وإيران وإسرائيل.
**تتيح علاقة ترامب وبوتين إزالة أية عراقيل أميركية ضد وجود روسي وحتى عسكري في سوريا، وتضعف الاعتراضات الأوروبية على ذلك.
**يمثل الوجود العسكري التركي في سوريا عاملا لقيام دول إقليمية في المنطقة من بينها إسرائيل، بدعم التواجد الروسي في سوريا وتشجيع دمشق على الاتفاق مع موسكو بشأنه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.