بايدن أم ترامب: أي رئيس تفضله إيران في الانتخابات الأميركية المقبلة؟
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات.
ورقة سياسات:
ملخص تنفيذي:
• تنطلق إيران في استشرافها للانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة من وقائع علاقتها بإدارتي الرئيسين، دونالد ترامب وجو بايدن، أي من امتلاكها لمعطيات خَبِرتها.
• أظهرت العلاقة مع إدارة ترامب أقصى ما يمكن أن تصل إليه في مواجهتها مع إيران. فمقابل ما وصفه ترامب بـ “العقوبات التاريخية” ضد إيران، لم يذهب بعيدا في تفعيل صدام عسكري بين البلدين على الرغم من توفّر مبررات لذلك.
• استبشرت طهران بولاية بايدن لاعتبارها امتدادا لسياسة باراك أوباما التي أثمرت إبرام الاتفاق النووي. غير أن بايدن -على منوال ترامب- التزم بقرار أميركي لإعادة كتابة “نصّ فيينا”. وقد وضعت الظروف الدولية منذ حربي أوكرانيا وغزّة البلدين في مواجهة جيوستراتيجية من جهة وتقاطع مصالح ظهر في مقاربة حرب غزّة من جهة أخرى.
• تشعر إيران أن موقعها داخل الملف النووي بات أفضل بسبب عقوبات ترامب، وأنها تفضل التعويل على إعادة انتخاب بايدن لإبرام اتفاق جديد يستفيد من تحسّن هذا الموقع.
تقييم التجربتين:
تراقب إيران عن كثب مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرر إجراؤها في 5 نوفمبر 2024. وعلى الرغم من عدم تسرّب أي موقف رسمي بشأن تفضيلات طهران بين الديمقراطي، الرئيس الحالي، جو بايدن والجمهوري، الرئيس السابق، دونالد ترامب، غير أن مجموعة من العوامل والتحديات تدخل بعين الاعتبار لتحديد اتّساق مستقبل المصالح الإيرانية مع أجندات المرشحيْن.
لا تعتمد طهران على تخمينات وتوقعات في تقييمها لأداء إدارتي بايدن وترامب. تمتلك طهران تجربة مكثّفة وشفافة في الكيفية التي قارب بها الديمقراطيون، لا سيما في عهد بايدن وقبله باراك أوباما (1997-2004)، ملفات إيران. وتمتلك أيضا جردة كاملة عن أداء الجمهوريين، لا سيما في عهد ترامب (2017-2021)، في توجيه السياسة الخارجية الأميركية للتعامل مع مصالح إيران. ووفق هذه التجارب لا تتوقّع إيران تغيّرا في خيارات ترامب التي تؤكّدها مواقفه الراهنة، ولا تتوقّع تحوّلا انقلابيا لبايدن إذا ما تمّ التجديد له لولاية جديدة في البيت الأبيض.
في العلاقة مع ترامب: تستنتج طهران، وفق الخطاب الانتخابي الراهن ، أن الولاية الجديدة المحتملة له لن تحمل أي تحوّل عن مواقفه في ولايته الرئاسية. فانتخاب ترامب سيكون امتدادا لسلوك لم يتراجع عنه لجهة الاستمرار في فرض العقوبات وممارسة الضغوط القصوى على إيران من أجل تنفيذ الشروط الـ 12 التي كان وزير خارجيته مايك بومبيو قد أعلنها في 21 مايو 2018.
ورغم التغير الذي طرأ على المشهد الدولي خصوصا منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا منذ 24 فبراير 2022 وفي قطاع غزّة منذ 7 اكتوبر 2023، ورغم تطوّر موقع إيران داخل هذا المشهد، وخصوصا لجهة علاقتها بالحربين، إلا أن مواقف الحزب الجمهوري سواء التي عبّر عنها مرشحين جمهوريين مثل نيكي هايلي أو رون دي سانتيس أم تلك التي يعبّر عنها ترامب لم تسجل أي تغيّر في الخطاب السابق الذي عرفته الإدارة في عهد الرئيس السابق.
تسجل طهران أنه في ما عدا قيام الولايات المتحدة باغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري بالقرب من مطار بغداد في 3 يناير 2020، فإن إدارة ترامب في البيت الأبيض لم تبدِ أي تحوّل دراماتيكي عسكري ضد إيران ومصالحها في المنطقة. فحتى مسألة الردّ الإيراني بعد ساعات على عملية الاغتيال ضد قاعدتي عين أسد وأربيل في العراق اللتين تتركز داخلهما قوات أميركية، ظهر، وفق تصريحات ترامب، أنه كان مدبرا ومتفقا عليه بين واشنطن وطهران.
وعلى الرغم من مظاهر العلاقة الحميمية لترامب مع السعودية ودول الخليج، فإن الرئيس الجمهوري لم يحرّك الآلة العسكرية الأميركية لصالح المملكة حين تعرّضت منشآت أرامكو لديها لضربات من قبل جماعة الحوثي الموالية لطهران في 14 سبتمبر 2019. ولم تقمّ واشنطن بأي ردّ على هذا الاعتداء على الرغم مما تشكله هذه الضربات من تهديد لاقتصاد الطاقة العالمي.
تسجل طهران أن الردّ الأميركي غاب أيضا حين أسقطت الصواريخ الإيرانية في 20 يونيو 2019، “بدون مبرر” وفق تصريحات واشنطن، مسيّرة من طراز MQ-4C Triton من صناعة أميركية فوق مضيق هرمز. وتعتبر المسيّرة أيقونة الصناعات العسكرية الأميركية والأعلى ثمنا في العالم. ولم يرد ترامب على الرغم من نشره تغريدة قال فيها إن “إيران ارتكبت خطأ كبيرا” اعتبرت أنها بمثابة إعلان حرب.
في العلاقة مع بايدن: عوّلت طهران كثيرا على فشل ترامب أمام المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية لعام 2020. استبشرت إيران بعلاقات ودّية مع رئيس ديمقراطي يمثّل امتدادا لعهد الرئيس باراك أوباما الذي أبرمت معه “خطة العمل المشتركة” في فيينا عام 2015. استند نظام الجمهورية الإسلامية أيضا على المواقف الانتخابية للمرشح بايدن الذي وعد بنقض قرار ترامب لعام 2018 بالانسحاب من الاتفاق والعودة إلى هذا الاتفاق في حال انتخب رئيسا.
توقّعت طهران أن ينتهج بايدن بعد انتخابه رئيسا سلوك سلفه ترامب باستخدام أوامر رئاسية للعودة إلى الاتفاق ورفع العقوبات. فالاتفاق لم يرقَ إلى مستوى المعاهدة التي يحتاج القرار بشأنها إلى تصويت الكونغرس، وصلاحيات الرئيس تخوّله تقرير مصير علاقة الولايات المتحدة بها. غير أن بايدن أعاد انتهاج مقاربة سلفه لجهة المطالبة بتنظيم مفاوضات لتصويب نصّ الاتفاق وإصلاح شوائبه تماما كما كان خطاب ترامب في هذا المضمار.
وعلى الرغم من تعيين روبرت مالي، المفترض أنه شخصية مؤيدة للتفاهم مع طهران وكان دوره أساسيا في التوصل إلى اتفاق 2015 على رأس فريق التفاوض، غير أن إدارة بايدن طالبت بإعادة كتابة الاتفاق لجهة مدة صلاحيته ومستوى تخصيب وتخزين اليورانيوم وآليات مراقبته. كما طالبت بمفاوضات بشأن البرنامج الصاروخي ومناقشة “سلوك إيران المزعزع للاستقرار في المنطقة”. ورغم مقاومة طهران لمحاولة فتح ورش مفاوضات جديدة، غير أن خطابا حذرا داخل الولايات المتحدة وبيئة معادية إقليمية ساهمت في تمسًك واشنطن في عهد بايدن بما طالبت به في عهد ترامب.
لعبت إيران في عهد بايدن أدوارا جديدة اعتبرت معادية لمصالح الولايات المتحدة سواء في تسهيل توسيع نفوذ الصين في الشرق الأوسط من خلال الاتفاق الاستراتيجي لمدة 25 عاما أو من خلال دخول المسيرات المصنّعة في إيران الحرب في أوكرانيا لصالح روسيا. ورغم تمسّك طهران بمواقف تنفي التورّط الرسمي في تلك الحرب، غير أن هذا الملف بات أساسيا في أولويات علاقات واشنطن وطهران. بالمقابل لعبت إيران دوراً محسوبا إثر عملية “طوفان الأقصى” في 7 اكتوبر، وظهر تقاطع في مواقف واشنطن التي نفت امتلاك معطيات بشأن تورط طهران مقابل مواقف إيرانية دعت إلى خفض التصعيد.
تلاحظ طهران أن إدارة بايدن استخدمت بكثافة أدواتها العسكرية ضد الفصائل الموالية لطهران في سوريا والعراق وضد جماعة الحوثي في اليمن. ومع ذلك فإن إيران تمتلك هامش للمناورة مع واشنطن بحيث تستجيب للضغوط العسكرية ضد الفصائل في العراق، وتسرّب معلومات بشأن تدخّلها لوقف عمليات هذه الفصائل، وتُظهر سعيها إلى ضبط ردّ فعل حزب الله في جنوب لبنان وعدم الإنجرار إلى استفزازات إسرائيل وتلويحها بالحرب الشاملة ضد لبنان. كما استفادت إيران من قدرات جماعة الحوثي على معاندة الهجمات التي تشنّها واشنطن ولندن ضد بناها التحتية العسكرية في اليمن منذ 12 يناير 2024 ولا ترى حاجة لتدخّلها حتى الآن.
استطاعت إيران في عهد بايدن الاستفادة من انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق فيينا لتتخلّص من التزاماتها. رفعت طهران وفق هذا الواقع معدّل تخصيب اليورانيوم من نسبة 3.67 حسب ما ينصّ عليه الاتفاق إلى نسبة 60 بالمئة. والأرجح أن هناك تفاهمات غير مكتوبة ينفيها الطرفان تتعهد طهران بموجبها بعدم تجاوز هذا المستوى، بما يحسّن من موقع إيران التفاوضي في هذا الملف.
خلاصة واستنتاجات:
• أظهرت إيران قدرة على التأقلم مع سياسات واشنطن أيا كانت طبيعة الإدارة في البيت الأبيض، لا سيما لجهة التعامل مع الضغوط العسكرية والعقوبات الاقتصادية. وتشكّل الانتخابات الرئاسية الاميركية المقبلة استحقاقا مهماً، لكن طهران، خصوصا وفق المشهد الدولي المتصدّع الحالي، تملك مرونة ورشاقة في مقاربة العلاقة مع أي رئيس ينتخب قي نوفمبر الماضي.
• تستنتج إيران أن “الدولة العميقة” الأميركية هي التي أثّرت على خيارات التعامل مع طهران. وهذا ما ظهر من خلال عدم ابتعاد موقف بايدن عن موقف ترامب بشأن البرنامج النووي، وأن موقف إيران هو رهن ما تملكه من مكانة داخل المشهد الدولي وعلاقات مع دول العالم ورهن المشهد الدولي العام وما يوفّره من موازين قوى لصالح أو على حساب إيران.
• من الأفضل لإيران عودة بايدن إلى البيت الأبيض لما أتاحته ولايته من أعراض تقاطع وتعاون (بما في ذلك اتفاق “تبادل السجناء والودائع”) على الرغم من أعراض الصدام والتوتر الذي عرفته علاقة البلدين. وعلى الرغم من أن مستويات الصدام العسكري بقيت منضبطة في عهدت ترامب، غير أن من مصلحة طهران تكمن في استمرار التعامل مع بايدن الأقرب إلى “المؤسسات” الأميركية، فيما التعامل مع ترامب سيكون مرتجلا شخصانيا يصعب استشرافه.
• بالنظر إلى رفع إيران مستوى تخصيب اليورانيوم إلى 60 بالمئة (بدل 3.67 بالمئة وفق الاتفاق) تفضل إيران استغلال هذا التطوّر الذي جرى في عهد بايدن لإبرام اتفاق معه في ولاية جديدة بدل فتح معركة جديدة مع ترامب لنقاش مكتسبات باتت بالنسبة لطهران إنجازا لا تراجع عنه إلا باتفاق شامل.