الشعبوية تجتاح العالم ولم تعد حكرا على اليمين 

أسعد كنجو 

كما كل الأيديولوجيات الكبرى التي ظهرت في الغرب مع كل مرحلة تاريخية مترافقة مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية، ظهرت الشعبوية بقوة في السنوات العشر الماضية كاصطلاح لمنظومة فكرية لم تترسخ بعد في الادبيات السياسية والاجتماعية الاكاديمية. انتشرت في الآونة الأخيرة كتابات أوروبية وأميركية، محركها الأساس خطاب دونالد ترامب في حملته الرئاسية والذي فاجأ فوزه الجميع، والذي بات يوصف بالشعبوية اليمينية. لكن غالبية الكتابات تلتقي على ان الازمة الاقتصادية العالمية الكبرى في العام ٢٠٠٨، هي المحرك الرئيس لظهور هذا التوصيف لهذا النوع من الحركات السياسية التي تجتاح العالم ولم تعد احتكارا أمريكيا. كما لم يعد محصورا بالحركات اليمينية المتطرفة والفاشية والعنصرية، بل أصبح يتشارك فيه تيارات يسارية بات بعضها في الحكم اليوم ( سيريزا اليوناني) (١) أو منافسا قويا لأحزاب عريقة وتاريخية في المشهد الاوروبي ( بديموس الاسباني )، و فاعلا أساسيا في استمرار حزب العمال البريطاني عبر (مومينتوم) واقترابه من الحكم وهزيمة حزب المحافظين، وتلاحظ العديد من الكتابات، تقاطعا كبيرا في الأفكار بين الشعبوية اليمينية واليسارية ( برنامج ساندرز المرشح الديمقراطي الشعبوي للرئاسة وبرنامج دونالد ترامب ) 

جوهر الشعوبية: 

بات تعريف الشعوبية أكثر تعقيدا وتداخلا، إذ يقترح علماء السياسة اطلاق صفة الشعبوية على كافة الحركات التي تدعي تمثيل مصالح ”الناس العاديين“ ضد النخب، وأن هدفها هو الكفاح ضد “عدو” أكثر عمومية، كمعارضة للنخبة أو النظم السياسية والاقتصادية التي توصف بالفاسدة والمنفصلة عن الناس، ويعلل زيادة شعبية تلك الحركات بانعدام الثقة العميق لدى الشعوب بالمؤسسات التقليدية، البرلمانات الوطنية ووسائل الاعلام والمصارف، وتلحظ معظم الكتابات التي تناولت الموضوع، أن  مؤشرات الدعم للتيارات الشعبوية  ترتفع في البلدان التي تعاني من معدلات بطالة عالية  واقتصاد سيء، وتزيد في الحالة الاوروبية موضوع الهجرة الواسعة والهجمات الارهابية  في المدن ، وتنامي مشاعر الخوف والقلق من الأجانب بصورة عامة.(٢) تلك المخاوف التي ساهمت في صعود تيارات الشعبوية اليمينية واليسارية في أوروبا. في العمق يجمع علماء السياسة على أن الشعبوية بكافة تعبيراتها كانت رد فعل على الليبرالية الجديدة واتساع الهوة الطبقية وعدم المساواة. في حين يتبنى الشعبويون اليمينيون خطاب ”الشعب أولاً“ ضد الأجانب والمهاجرين والأقليات العرقية، مترافقا مع موقف ضد المؤسسات السياسية  وسياسات الحدود المفتوحة  ، فإن اليسار الشعبوي يعادي أيضا المؤسسات الاقتصادية  كالبنوك والشركات الكبرى والسياسيين الفاسدين. هنا يجري التمييز بين الشعبوية اليمينية التي ترتكز خطابها على أساس عرقي / ثقافي، بينما اليسارية تنحو الى التأكيد على العوامل الاقتصادية إلى حد كبير، رغم أن بعضها في المثالين الألماني والإيطالي، بات يتماهى مع الخطاب الشعبوي اليميني في معاداة المهاجرين والأجانب، باعتبار ذلك تكتيكا لقطع الطريق على اليمين ومقدمة لإقامة الديمقراطية الشعبية. 

أسباب تنامي الشعبوية: 

تظهر استطلاعات الرأي في معظم الدول الأوربية استياء واضحا من سياسات التجارة الحرة والحدود المفتوحة ومسألة الهجرة، كونها ساهمت في اضمحلال بنى اجتماعية بأكملها، وأفقدتها الأمان الوظيفي والاجتماعي، وهو ما أدى بدوره للتأثير على شعبية  الأحزاب السياسية التي كانت تعتمد على تلك الشرائح في منافستها على السلطة، فسياسة السوق المفتوحة ورفع الحمائية التجارية عن المنتجات المحلية، بالإضافة لتوجه معظم الشركات الكبرى إلى دول العالم الثالث ودول العمالة الرخيصة، وانتقال الأيدي العاملة في كافة المجالات تقريبا من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، والذي أدى أيضا لانخفاض أجور ومداخيل مواطني الدول الغنية، نظرا للمنافسة التي أوجدها المهاجرون الجدد حتى في المجالات والوظائف الرفيعة.  كل تلك الأسباب كانت كفيلة بإحداث ردات فعل أدت لتنامي الظواهر الشعبوية، مستغلة حالة الاستياء وخيبة أمل لدى المواطنين من أحزابهم ومؤسساتهم التقليدية التي لم تتمكن من حماية مصالحهم ووظائفهم. وهناك عامل اخر، يتصل بآليات عمل الاتحاد الاوروبي، حيث يسود شعور أن دوائر الاتحاد المتنفذة ،  صادرت الدور التمثيلي للبرلمانيات الوطنية لصالح نخبة التكنوقراط التي تدير المؤسسات وتتحكم بالقرارات والتي بدورها تؤثر على حياة الأوروبين دون يكون لتلك الشعوب راي بها. والمثال الأبرز الذي يبرز في السياق، هو الاجراءات التقشفية التي فرضت على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي، بما في ذلك الغاء القوانين المحلية الخاصة بالحماية الجمركية، ما أدى الى أزمات اقتصادية حادة في بعض البلدان ووصولها الى عتبة الإفلاس، لكن الأهم انها ساهمت في تنامي التيارات الشعبوية اليمينية واليسارية التي تنادي بالخروج من الاتحاد الاوروبي، وبروز النزعات الوطنية والقومية الضيقة. 

اليمين لم يعد يمينا:

استغلت التيارات اليمينية موجة الاستياء الشعبي من الأداء الاقتصادي، وجددت شعارات إغلاق الحدود وطرد المهاجرين، والذي لقي تجاوبا كبيرا لدى الطبقة العاملة والوسطى الامريكية المفقرة والهابطة من السلم الاجتماعي المميز. ولهذا تمكن الملياردير ترامب، القادم من خارج النادي السياسي الجمهوري، من الفوز غير المتوقع. فقد خاطب غرائز الجمهور الغاضب بوعود إعادة أمريكا الى مجدها، عبر فرض الضرائب على الاستيراد وارجاع الصناعات التي هاجرت بحثا عن العمالة الرخيصة، وبناء جدار عازل على طول حدود بلاده مع المكسيك وطرد المهاجرين غير الشرعيين والحد من أعداد اللاجئين.  وهو ما حصل مع الجبهة الوطنية في فرنسا، حيث جاهرت مارين لوبان بالعداء للأجانب وحملت خطابات لا تخلو من العنصرية.  لكن اللافت أن ترامب وهو الرأسمالي الكبير توجه برسالته الى الطبقة العاملة تماشيا مع الاستياء العام من السياسات الاقتصادية الرأسمالية، وهو ذات الأمر الذي فعلته لوبان أيضا، حين وعدت بزيادة الأجور وحماية الصناعات المحلية وفرض الضرائب على الواردات، ما يعتبر استدارة من تلك التيارات المحافظة ضد الليبرالية الجديدة ، حيث يجادل البعض أن من يتحمل المسؤولية عن الكوارث الاقتصادية  هي المؤسسات الرأسمالية الليبرالية وممثليها السياسيين  من التيارات اليمينية فقد كانت  المستفيد الأكبر من سياسة  الحدود المفتوحة، وهي نقلت  شركاتها ومصانعها نحو الدول ذات العمالة الرخيصة، وهي ذاتها من استبدل العمالة المحلية  بالمهاجرة . 

اليسار لم يعد يسارا:

براغماتية اليمين الشعبوي تلك وضعت التيارات اليسارية أمام تحد أفقدها الأوراق الرابحة التي كانت تعتمد عليها في خطابها للطبقات العاملة عبر مناهضتها للنظام الرأسمالي، فمعظم الأطراف المحسوبة على  اليسار في أوروبا تندرج تحت التيار الأكبر، الاشتراكي الديمقراطي، وتتمسك بمبادئ الديمقراطية والمساوة، لكن هذه الأفكار، التي اختبرت لأكثر من نصف قرن، لم تستطع استيعاب التغييرات العميقة التي حصلت على قاعدتها الاجتماعية التقليدية ( العمال والطبقة الوسطى ) في العقد الماضي ، تلك الطبقات بدأت  تفقد مكانتها الاجتماعية بفعل السياسات الليبرالية والحدود المفتوحة، وترجيح الاعتبارات غير الوطنية. كما ان هذه التيارات قللت من أهمية صعود التيارات الشعبوية داخلها الذي بات يكفر بالمؤسسات التقليدية والنخب، وتدعو لإغلاق الحدود والانعزال مجددا، مع الاعتبار أيضا للمخاوف الأمنية المتنامية في المجتمع، ولهذا لم تعد مبادئ اليسار التقليدي بالانفتاح والعولمة والمرحبة باللاجئين قادرة على الصمود.

لم تكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في المانيا والتي أدت الى خسارة الاشتراكيين الديمقراطيين أكثر من نصف مقاعدهم التقليدية في البرلمان لصالح حزب البديل، (٣) هي التعبير الوحيد عن الازمة، لكن التجلي الأكبر لهذه الظاهرة كان مع ائتلاف سيريتزا اليوناني ”ائتلاف اليسار الراديكالي“. وهو اتحاد لمجموعة من الأحزاب الصغيرة اليسارية والفوضوية التي اندمجت بعد مؤتمر عقد في تموز/ يوليو عام 2013، )٤) بحضور تيارات مختلفة من الشيوعيين واليساريين ومجموعات منشقة عن حزب الباسوك الذي تناوب على حكم اليونان لأكثر من نصف قرن. ولعل الخصوصية في هذا النوع من الشعبوية ، ان كل الائتلاف بني على أساس معاداة شروط الاتحاد الاوروبي التقشفية  التي فرضت على اليونان من اجل إنقاذ هذه الدولة الفقيرة من حالة الإفلاس ، فقد مرت على البلاد حالة توقفت فيها الدورة الاقتصادية بما في ذلك البنوك ، وعجزت الدولة عن دفع رواتب موظفيها ، تقدم ائتلاف سيريتزا ، بخطوة شعبوية ، حين طالب بالاستفتاء على الشروط الاوروبية ، وشن حملة عنيفة على الأحزاب التقليدية متهما إياها بالفساد وبيع البلاد للمؤسسات الاوروبية ، وهدد بإنهاء تعامل اليونان باليورو والعودة لاستخدام “الدراخما “العملة اليونانية، وذهب الى حد التهديد بوقف سداد الديون  للبنوك الفرنسية والألمانية على وجه الخصوص. 

بريطانيا لم تنج أيضا من شبح اللحظة الشعبوية ، يمينا ويسارا في حزبي العمال والمحافظين ، فكلاهما شهد في السنوات الأخيرة خسارة مئات الالاف من عضويته الحزبية ، واستنكاف الأجيال الشابة عن المشاركة في الحياة السياسية ، لكن الأهم هو بروز تيارات شعبوية ، يقف موضوع عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي على راس الاولويات لديها، وخاض اليمين مستندا الى تيار يميني ـ  حزب الاستقلال (UKIP  ) وعلى يمينه مجموعات يمينية متطرفة وعنيفة ، لا تدعو في فقط الى مغادرة الاتحاد الاوروبي والسوق الاوروبية المشتركة وحسب ، وانما الى اغلاق البلاد في وجه اللاجئين من أوروبا ، وفرض ضرائب على الاستيراد لحماية الصناعة والزراعة البريطانية . وفي الجهة المقابلة وقف حزب العمال في حالة من العجز القيادي ونضوب المعين الفكري، وخسارات متتالية في الانتخابات المحلية والبرلمانية.  وفي لحظة المصادفة التاريخية تقدم جيرمي كوربن اليساري المخضرم ورجل الهامش التاريخي لرئاسة الحزب، ولم يكن أي من اقطاب الحزب على قناعة ان بإمكان العجوز كوربين إعادة الحزب الى مركز الحياة السياسية، لكنه فاجأ الجميع بانتخابات كررت مرتين خلال سنة واحدة، لتعيده على راس الحزب وبتأييد أكبر (٥) .وترجع بعض الكتابات الراصدة لتطورات حزب العمال ، ان المانيفستو الانتخابي الداخلي الذي ترشح على أساسه كوربين لرئاسة الحزب، لامست بصورة كبيرة هموم وقلق الفئات الشابة ، عندما تحدث عن ضرورة الغاء الأقساط الجامعية وإعادة النظر في خطة الحكومة تجاه الإسكان الشعبي ، وذهب الى حد المطالبة بتأميم المواصلات في بريطانيا وخاصة السكك الحديد والطيران ، وإعادة الموازنات المالية لقطاع الصحة مفخرة بريطانيا بعد التقليصات الهائلة التي اقرتها حكومة المحافظين . التقطت القطاعات الطلابية النشطة رسالة كوربين، وأعلن نشطاء جامعيون نواتهم الصلبة الاولى من المجموعات الفوضوية، في العام ٢٠١٥ انها تشكل حركتها ” مومينتوم “  للوقوف خلف الزعيم اليساري كوربين، وباتت كحركة أسست بموازاة خارج الحزب،تشكل الثقل الأساس في الحركة اليسارية العمالية ،اذ تضم اليوم نحو ٢٥٠ ألف بين عضو ومؤازر غالبتهم من الجيل الشاب تحت سن الثلاثين (٦). ما يجدر ذكره ان بعض التيارات التي شكلت “مومينتوم” كان لها المحرك الرئيس لاحتجاجات الطلاب الذين احتلوا جامعاتهم بسبب زيادة الأقساط الجامعية عام ٢٠١٠، وكان لهم أيضا الدور البارز في التظاهرات المعادية للعولمة، حين نزلوا في الشوارع لتحطيم واجهات البنوك الكبرى في شارع المال وسط لندن. وفي خلفية هذه الجماعات التي اتحدت لدعم التوجه اليساري في الحزب، نجد ان تأثير مانيفستو الأناركية الفوضوية الفرنسية “اللجنة غير المرئية” وبعنوان ” التمرد القادم ” في اذار \مارس ٢٠٠٧، (٧) والذي تضعه بعض الكتابات في مصاف البيان الشيوعي لماركس في القرن التاسع عشر، والذي يعتبر اليوم دليل عمل الانتفاضة القادمة للأجيال الاوروبية الجديدة. وهم الذين يرددون ذات الشعارات الشعبوية، ضد المؤسسات الاقتصادية والبنوك والمؤسسات السياسية الإعلامية التقليدية القائمة. 

تهديد للديموقراطيات القائمة:

ثمة رأي يتسع في الاوساط الاكاديمية يقول “  أن الشعبوية في طريقها لصبغ المرحلة القادمة من التفكير السياسي في الغرب” فيما بعد مرحلة الليبرالية الجديدة ، ونشهد انتشارا واسعا  لـ ”أدبياتها“ ومنظريها ، وينتشر الجدل حول أثرها على المسار الديمقراطي القائم والذي ترسخت منظومة قيمه حول الحريات وحقوق العمال والمهمشين والحق في العمل والطبابة والمسكن ، والتي باتت اليوم مهدده بفعل إجراءات التقشف الرأسمالية الليبرالية ، وتبرز اليوم في سياق الرسائل  الشعبوية  نزعة إلغائية، تستهتر بالمؤسسات الديمقراطية ، وتقسم المجتمع بين ”نحن“ و “هم“ أو ”الأعداء“، وهو ما يظهر جليا في  خطابات الزعماء  الشعبويين يمينا ويسارا ، بادعائهم تمثيل مصالح الأغلبية \ الامة \ الشعب ،  واعتبار المعارضين ، مضللون او مأجورون او خونة ، وفي بعض البلدان ، لا يتورع بعض القادة الشعبويين عن استخدام لغة عنصرية اقصائية ضد الأقليات المختلفة في اللون او الدين او الثقافة .

المراجع : 

1.https://www.bbc.co.uk/news/world-europe-30975437

2.https://www.economist.com/the-economist-explains/2016/12/19/what-is-populism

3.https://www.reuters.com/article/us-germany-election-spd/german-social-democrats-vow-to-rebuild-in-opposition-after-election-drubbing-idUSKCN1BZ0YQ

4.https://www.syriza.gr/page/who-we-are.html

5.https://www.theguardian.com/politics/2015/sep/12/jeremy-corbyn-wins-labour-party-leadership-election

https://www.theguardian.com/politics/blog/live/2016/sep/24/labour-leadership-election-result-jeremy-corbyn-owen-smith-appeals-for-unity-politics-live

6.https://www.independent.co.uk/news/uk/politics/momentum-members-growth-labour-party-jeremy-corbyn-ukip-green-conservative-membership-numbers-tory-a8166031.html

7.https://tarnac9.noblogs.org/gallery/5188/insurrection_english.pdf

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.