الحرب على غزة:

تعثر سياسي وتصدّع في جدار العالم الغربي

أمير مخول، مركز تقدم للسياسات

انشغلت حكومة اسرائيل والاعلام والراي العام بشكل لافت ومكثّف في التحول في الموقف الفرنسي. وبدت حملة نتنياهو المضادة ضد ماكرون باهتة وغير مقنعة حتى امام الجمهور الاسرائيلي ووسائل الاعلام المحلية. عاد نتنياهو ليكرر مسعاه بإقناع العالم بأن “على قادة العالم ان يدينوا حماس-داعش- وليس اسرائيل” واضاف بأن “الجرائم التي ترتكبها حماس في غزة اليوم سوف يرتكبها التنظيم في باريس ونيويورك وكل مكان في العالم”، وفي مؤتمره الصحفي المشترك مع غانتس وغالنت 11/11 خصص حيزا لهذا التحول ورفض “الوعظ الاخلاقي” الفرنسي.
وكان الرئيس الفرنسي دعا قادة الدول الغربية للانضمام لندائه بوقف إطلاق النار، وقال “لا يوجد اي سبب او شرعية لقتل الاطفال والنساء في غزة ولا لقصف المستشفيات والمدنيين” ودعا الى التوقف عن قتلهم و”إننا نلحّ على اسرائيل بالتوقف”
لم تستطع وسائل الاعلام الاسرائيلية مهاجمة ماكرون فهو من أبرز من حضروا الى اسرائيل وأغدق في اعلان دعمه الحرب على غزة وشارك في الحاضنة الدولية الحربية لضمان عدم انضمام جبهات اخرى للحرب خاصة الجبهة الشمالية والاقليمية. وهو من عارض وقف إطلاق النار حتى قبل أيام، داعيا اسرائيل الى القضاء على حماس، في حين دعا الدول الاوروبية الى اتخاذ الاجراءات شبيهة بما فعلته بلاده، بمنع اية تظاهرات داعمة للشعب الفلسطيني وحقوقه والداعية لوقف الحرب على غزة واعتبر ان اي انتقاد لإسرائيل يكون بمثابة نزعة لا-سامية.
شكّل تصريح ماكرون مع شبكة BBC اول مطالبة غربية بوقف إطلاق النار متجاوزا خطاب “الهدن الانسانية” الذي ميز الموقف الامريكي، والذي رأت فيه اسرائيل ورغم تمنّعها الرسمي، فرصة لتهجير الغزيين جنوبا والقضاء على اية بنى تحتية تتيح الحياة في غزة المدينة وشمال القطاع. ونظرا لكونه يطالب بوقف إطلاق النار ويدعو قادة العالم للانضمام لندائه فقد رأت اسرائيل بذلك تصدّعا جوهريا في الموقف الغربي المساند، خاصة وانه يتزامن مع تصريح بلينكن في اليوم ذاته بمعنى ان اسرائيل استهدفت “أكثر من اللازم” اطفالا فلسطينيين في حربها. كما وتزامن مع التقدم في المساعي لعقد صفقة تبادل أسرى جزئية تشمل العشرات من الاسرائيليين والأجانب في غزة.
تحظى مسألة تبادل الاسرى والرهائن بأولوية عالية جدا في الراي العام الاسرائيلي متقدّمة على اية مسألة أخرى، بالإضافة الى وجود نحو مائتي ألف اسرائيلي نازح يعتبرون أنفسهم “لاجئين في دولتهم” ومنهم ستون ألفا لا مكان يعودون اليه وفقا لتلفزيون “كان” العبري 11/11. وقد باتت مسألة الاسرى شانا دوليا تتداخل فيها العديد من الدول ذات الصلة، الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وروسيا ناهيك عن الدول العربية وحصريا مصر وقطر، عمليا لم تعد قضية اسرائيلية سيادية فحسب وفقا لاعتبارات حكومة نتنياهو.
من اللافت ان كابينيت الحرب ومن خلال انظمة الطوارئ لم ينجح في التقليل من اولوية مسألة التبادل او اخراس صوت عائلات الاسرى والرهائن الاسرائيليين الذي يتسع الاحتجاج بشأنه، الا انه اعتمد نهج التأثير على خطاب هذه الحملة، وإسكات مطلب “الكل مقابل الكل” الذي كان شعار العائلات والذي دعا الى تبادل كل الاسرائيليين في غزة بكل الاسرى والاسيرات الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، وتم تحويل الشعار الى “إطلاق سراح كل المخطوفين فورا” وبأي شكل كان. بموازاة ذلك حسمت حكومة الحرب امرها بشأن عدم التوقف بأي شكل عن الحرب، (ما دامت تتقدم والثمن محتمل)، وذلك في مقابل المطلب الشعبي بأن الاجتياح البري يتسبب في قتل الاسرى الاسرائيليين.
مهما بدت اسرائيل الرسمية رافضة لأية مفاوضات الا انها باتت متورطة بغير ارادتها بالمفاوضات المباشرة وغير المباشرة بشأن الاسرى، وباتت متعثرة في وجهتها النهائية في غزة أكثر مما تطلق عليه تقدما حتى ولو حصل ميدانيا في سياق حرب غير متكافئة بشكل صارخ. وتأتي تصريحات نتنياهو وغانتس وغالنت المتضاربة والمواربة بشأن “مصير غزة” بعد الحرب عليها، لتؤكد ان مخطط اسرائيلي لا يزال يسير وفقا لنوايا حكامها لنسمع مواقف متناقضة يطلقها نتنياهو نفسه بصدد “عدم الرغبة باحتلال غزة”، و”السيطرة العسكرية المستدامة لإسرائيل في غزة” و”عدم الرغبة في ادارة شؤون غزة” وضرورة نظام دولي يحكم في غزة” و”رفض اي تواجد دولي في غزة” و”رفض اي دور للسلطة الفلسطينية في غزة” يضاف اليه الغموض في تقدير طول فترة الحرب او نقطة النهاية، والذي شكّك فيه الجنرال يئير غولان نائب رئيس الاركان سابقا والذي اكد في تلفزيون “كان” (12/11/23) باستحالة القدرة اقتصاديا واجتماعيا على ادارة حرب تمتد لأشهر.
يتضح اكثر فأكثر بأن الخطاب الاسرائيلي الرسمي بشأن الحرب طويلة المدى (من اشهر ولغاية سنوات) هي اقرب الى الحرب النفسية والاعلامية الموجهة للفلسطينيين توخيا في “رفع راية الاستسلام”، وللإسرائيليين في ترميم المعنويات والتصدي لانهيار الثقة الشعبية بالحكومة، ودوليا لابتزاز الموقف عالميا وجعل الكارثة التي تحدثها في غزة اداة لابتزاز المجتمع الدولي للتدخل على نحو القبول بالتهجير والضغط على مصر بهذا الصدد.

الخلاصة: بات من الواضح حدوث تشققات جدية وآخذه بالاتساع في الموقف الغربي المساند لإسرائيل، يوازيه تعثر في تحديد غايات الحرب اسرائيليا، وكذلك الضرر اللاحق بمقومات النفوذ الامريكي في المنطقة وتراجع كبير لدور اسرائيل ايضا، كما وأن ثمن الحرب اسرائيليا بات باهظا بشريا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ويتعاظم الغضب الشعبي في هذا الصدد، وتنهي القناعة بأن الحرب البرية والتصعيد بالدمار سيدفع نحو إطلاق سراح الاسرى والرهائن في غزة.
إن تقلص حدود الفرصة الممنوحة لإسرائيل في مواصلة حربها العدوانية على غزة، واحتمالية عقد صفقة أسرى، فإنها تدفع حكومة الحرب والجيش الى التصعيد النوعي في القصف وتدمير كل البنى الحياتية في غزة سعيا لخلق واقع لا يتيح اية امكانية لعودة الحياة الى شمال قطاع غزة بينما الموقف العملي هي التهجير ولم تتراجع عنها رغم تعثرها. فالحرب المتسارعة على المستشفيات هي تعبير واضح عن هذه النوايا.
اسرائيل في مأزق حربها، ولذلك يتم التصعيد في سباق مع الزمن، وهناك نوايا بتوسيع الجبهات، لكنها ليست اللاعب الوحيد في هذا الصدد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.