الحراك الجنوبي في اليمن : غياب الرؤية والهدف الموحد

مقدمة:

لم ينشأ الحراك الجنوبي في اليمن من العدم، بل كان لوجوده مقدمات عدة، أولها الحرب الأهلية اليمنية عام 1994، التي نشبت نتيجة لصراع سياسى كبير بين علي عبد الله صالح رئيس الجمهورية، وعلي سالم البيض نائب الرئيس، أعلن على إثره علي سالم استقلال الجنوب مرة أخرى، الأمر الذي لم يقبله الشماليون، فتدخلوا عسكريا ونشبت حرب أهلية، انتهت بانتصار الشمال، وهروب قيادات الجنوب إلى الخارج، وعلى رأسهم علي سالم البيض.

بعد الحرب وإجهاض محاولة الانفصال، ظهرت قيادات جديدة في الجنوب تمثلت بشخصين هما محمد حيدر مسدوس، وحسن باعوم، وطالبا بإصلاح مسار الوحدة وإزالة آثار الحرب والتهميش الواضح للجنوبيين، ولكنها كانت مجرد مطالبات لم تجد طريقها للتطبيق العملي إلا في أواخر التسعينات، عندما تم تشكيل لجان شعبية في عدد من المحافظات الجنوبية والشرقية، للمطالبة بإنهاء تداعيات الحرب من التمييز ضد أبناء الجنوب في التوظيف والسكن وتوزيع الأراضي، أما خارج اليمن فقد ساهمت القيادات الهاربة بعد الحرب في تأسيس “التجمع الديمقراطي الجنوبي” (تاج) في العام 2004 وكانت مواقفه أكثر راديكالية؛ حيث اعتبر أن هدفه هو الانفصال النهائي، وليس مجرد إصلاحات في وضع الجنوب، واعتبر وضع الجنوب وضع احتلال، وطالب التجمع المجتمع الدولي بمساندة أبناء الجنوب على الانفصال.

كل هذه المقدمات كانت البذرة التي نشأ منها الحراك الجنوبي عام 2007، والذي قدم نفسه كحركة احتجاجية حقوقية في البداية، ثم تطور ليكون مظلة سياسية لكل الكيانات والشخصيات المطالبة بالانفصال.

الأفكار والمكونات

لا يمتلك الحراك أيدولوجيا فعلية؛ وذلك بسبب التنوع المختلف في الرؤى بين كياناته وفصائله وقادته، وقد حرص الحراك منذ تأسيسه على أن يكون قوة فعلية على الأرض، تختلف في أهدافها وتوجهها عن الحزب الاشتراكى -الحاكم السابق لليمن الجنوبي-، لتقتصر الميول اليسارية في الحراك على بعض القادة العسكريين القدامى في الجيش الجنوبى المنحل.

وقد تم تشكيل الحالة التنظيمية للحراك على مرحلتين: الأولى بدأت في 2007، وتركزت فيها المطالب على تحسين أوضاع أبناء الجنوب ومساواتهم بالشمال، ولم ترق الطروحات إلى المطالبة بالانفصال، وفي هذه المرحلة تشكل الحراك من خمسة كيانات:

1-جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين والمدنيين برئاسة العميد ناصر النوبة، وهو الكيان الذي بدأ الحراك، وهم مجموعة من العسكريين المسرحين من الخدمة بعد حل الجيش اليمني الجنوبي، ويغلب عليهم الطابع اليساري، وتنشط هذه المجموعة في محافظتي شبوة والضالع.

2- جمعية العاطلين عن العمل.

3- جمعية شباب بلا عمل.

4- مجلس تنسيق الجمعيات الزراعية.

5- جمعية الدبلوماسيين المسرحين.

كما يظهر من التسميات، فقد طغى على الحراك وقتها طابع الحقوق المدنية والاقتصادية، وليس مطالب الانفصال السياسية.

المرحلة الثانية:

بدأت في العام 2008، وهي انطلاقة المرحلة السياسية التي تبنت شعار الانفصال، بعد تجاهل الحكومة الشمالية للمطالب السابقة، حيث تم تشكيل هيئات جديدة بمسميات لها طابع سياسي، وأبرز هذه الكيانات:

1- المجلس الوطني الأعلى لتحرير الجنوب بقيادة السياسى المحنك حسن باعوم، وتنشط هذه المجموعة في محافظتي الضالع ولحج.

2- حركة النضال السلمي الجنوبي، وهي حركة تنتمي لمحافظة الضالع، أكثر مناطق الجنوب تحمسا للانفصال؛ بسبب تاريخها القديم، كونها كانت محافظة مركزية في دولة اليمن الجنوبي المنحلة.

3- الهيئة الوطنية العليا لاستقلال الجنوب، وهى هيئة أنشأها العميد ناصر النوبة ككيان منفصل عن كيان العسكريين المتقاعدين، إثر الانقسام في كيان العسكريين، وليشمل الكيان الجديد جميع أبناء الجنوب.

4- الهيئة الوطنية للنضال السلمي الجنوبي: وهي مجموعة من النخب والأكاديميين والنشطاء السياسيين، ويتركز وجودها في أبين ولحج وشبوة.

في العام 2009 تم توحيد كل الكيانات التي نشأت في المرحلة الثانية من تكوين الحراك تحت اسم “المجلس الأعلى للحراك السلمى لتحرير الجنوب”، وتم اختيار حسن باعوم رئيسًا له.

نتيجة للاختلاف الكبير بين المكونات وتصوراتهم المختلفة للقضية الجنوبية، بدأ الحراك بالاتجاه للانقسام في 2009، فظهر جناحان في الحراك، الأول يدين بالولاء لحسن باعوم، والثاني لعلي سالم البيض آخر رئيس لجمهورية اليمن الجنوبي، وأصبح الشكل الحالي للحراك هو قيادتان مختلفتان، تعتبر كل منهما نفسها القيادة الرسمية للحراك، وتعتبر الأخرى غير شرعية، ويضم كل جناح الفصائل القريبة من تفسيره للقضية الجنوبية.

أسباب الانشقاق؟

أسباب الانشقاق كانت واضحة، ولكن رغبة أبناء الجنوب فى تكوين كيان سياسي يعبر عنهم بعد سنوات من التخبط وعدم وجود قيادة مركزية، أوقعتهم في فخ التسرع وعدم وضع تصور واضح للبرنامج السياسي للحراك والشكل المتوقع لدولة الجنوب بعد الانفصال منذ بداية مرحلة التكوين السياسي، ويمكننا تلخيص أسباب الانشقاق في ثلاثة أسباب:

السبب الأول: هو اختلاف الرؤى داخل الحراك في قضية الهوية؛ فهنالك مفهومان لفترة ما بعد الانفصال: الأول هو الاستقلال مع الاحتفاظ بالهوية اليمنية الموحدة دون الاعتراف بهوية جنوبية مستقلة.

المفهوم الثاني هو استعادة مشروع الجنوب العربي، الذي يرى أن اليمن الجنوبي ليس فقط دولة مستقلة، بل عادات وتكوين اجتماعي مختلف عن اليمن الشمالي، وفى هذا المفهوم يعود اليمن الجنوبي لهويته القديمة التي ترى نفسها مختلفة كليا عن اليمن الشمالي، وترى فى المفهوم الأول إغفالاً للخصائص الاجتماعية وشكل الدولة التي اكتسبها اليمن الجنوبي فترة ما قبل الوحدة.

هذا الخلاف عندما تم تجاهله في بداية توحيد صفوف الجنوبيين ترك قضية عالقة أفضت في النهاية للشكل الحالي للحراك.

السبب الثاني: هو الاختلاف بين الجناحين في السبيل الأفضل للانفصال؛ فجناح علي سالم البيض يرى أن الانفصال يجب أن يكون ناجزًا وفوريًا، على عكس جناح حسن باعوم الذي يرى أن هذه الخطوة  يجب أن تكون سلسة وعلى مراحل، على غرار اتفاقية نيفاشا بين شمال وجنوب السودان.

السبب الثالث: هو صراع الزعامة التاريخي بين القيادات الجنوبية.

الحراك والحكومة

تؤمن أغلبية الشارع الجنوبي بجدوى الحراك والانفصال عن اليمن الشمالي؛ نظرًا للفجوة الجغرافية والاقتصادية بين الجنوب والشمال، فالجنوب أقل من الشمال سكانًا وأغنى منه مواردًا وثروات طبيعية مقارنة بعدد السكان، وبالتالي يرى الجنوبيون أنهم سيكونون أفضل بدون الشمال، الذين يتهمونه بسرقة ثرواتهم والسيطرة على الحكم بحكم الأغلبية السكانية الشمالية، بالإضافة إلى أن الشمال مختلف عن الجنوب من ناحية التكوين الاجتماعي؛ فالتقسيم القبلي في الجنوب أقل تشعبًا وثأثيرًا.

حاولت الحكومات اليمنية المتعاقبة احتواء الحراك، فأطلقت العديد من المبادرات لدمج الجنوبيين على فترات زمنية متباعدة، فأطلقت مبادرة خاصة بالعسكريين المسرحين، الذين رأتهم الحكومة أساس حركة الاحتجاج، وأعادت أكثر من 2000 عسكري جنوبي للخدمة، وأعطت آخرين معاشات تقاعدية، كما أعلنت حكومات علي عبدالله صالح خططًا لدمج أبناء الجنوب في وظائف حكومية، وتوجيه نسبة من الدخل النفطي للبنية التحتية الجنوبية المنهارة، وتوزيع بعض الأراضي المصادرة بعد الحرب الأهلية، ومبادرات العفو العام عن معتقلى الجنوب كما حدث في 2010 في إطار احتفالات اليمن بذكرى تحقيق الوحدة، وتأسيس “اللجان الوطنية للدفاع عن الوحدة” لعمل نوع من الدعاية الإعلامية لحشد المواطنين الجنوبيين ضد الحراك والترويج لسياسات الحكومة.

لكن أبناء الجنوب يجدون صعوبة في تصديق الحكومة لعدة أسباب أهمها ردود فعل رجال الأمن القامعة للفعاليات الجنوبية، وقطع خدمات الهاتف والإنترنت واعتقال الصحفيين والنشطاء والقادة وتقديمهم للمحاكمات، وعدم وجود استراتيجيات طويلة المدى لتحسين أوضاع الجنوب، والقناعة الراسخة للجنوبيين بحقهم في موارد مناطقهم.

وخلال الحرب الأخيرة في 2015 وما تلاها بين الحوثيين وعلي عبدالله صالح الذي كان حليفا لهم، وبين الحكومة المعترف بها دوليا بقيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي وتدعمها السعودية والإمارات، اتخذت الحكومة الشرعية عدن مقرا لها، وشهد الموقف الرسمي للحراك بجناحيه من الشرعية بعض الشد والجذب؛ فقد حاول الرئيس هادي استقطاب بعض قيادات الحراك وتعيينهم كمحافظين للمحافظات الجنوبية وفي مناصب سياسية واستشارية؛ لإجبارهم “وفقًا لمناصبهم” على تنفيذ الأجندة الحكومية، في محاولة لاحتواء الحراك وتوجيه دفته للتخلي عن الانفصال، لكن الحراك تعامل مع الأمر ببراجماتية تامة، وقبِل قادته هذه المناصب دون التخلي عن قضية الانفصال، ووضعوا نظرية جديدة للتعامل مع السلطة، وهي فصل قضية الانفصال عن التعامل مع السلطة ومناصبها، فأصبح الحراك يتعامل مع هادي بمنطق اقتناص المكاسب.

الحراك المسلح

الموقف الرسمي للحراك منذ تأسيسه هو النضال السلمي، ولكن منذ بداية الحرب اليمنية الحالية في 2015 تغيرت الأمور، وشارك أفراد الحراك في مجموعات مسلحة، وانخرطوا في القتال ضد الحوثيين والجيش اليمني المتحالف مع علي عبدالله صالح، وكانوا السبب الأقوى في إعادة محافظات الجنوب لحكومة الشرعية بقيادة هادي.

وفي مايو 2017 أعلن عن تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي، ليتحدث باسم الجنوب بقيادة عيدروس الزبيدي، الذي يعتبر من قيادات الحراك التاريخية، وشكل المجلس ميليشيا عسكرية باسم “الحزام الأمني”، لضبط الأمن في محافظات الجنوب بعد إخراج قوات صالح والحوثيين منها. هذه الميليشيا تحظى بدعم الإمارات والتحالف العربي، وتواصل التوسع في محافظات الجنوب، وبالطبع لا تعترف بها السلطة الشمالية ممثلة بحكومة هادي وقواتها العسكرية الرسمية، ولكنها لا تتصادم معها في الوقت الحالي لتقاطع مصالحهم في محاربة القاعدة المتواجدة في الجنوب وضبط الأمن، ويبلغ قوام الميليشيا بحسب نشطاء يمنيين قرابة العشرة آلاف شخص.

وفي 27 يناير 2018 حاولت هذه الميليشيا الانقلاب على حكومة الشرعية بقيادة هادي، فهاجمت مجلس الوزراء ومجلس القضاء وحاولت التقدم إلى مقر الحكومة في قصر معاشيق جنوب عدن وسيطرت على مقرات عسكرية وحكومية، الأمر الذي أدى إلى اشتباكات ضارية مع قوات الحماية الرئاسية، وخلفت المواجهات قرابة 29 قتيلا، وبعد وساطة سعودية وإماراتية توقفت الاشتباكات، لكن فتيل الأزمة لم ينته بعد.

دوليًا وإقليميًا: ضد الانفصال

يفتقر الحراك بجناحيه للدعم الخارجي، فلم تبد أي من الحكومات الإقليمية أو الدولية موقفًا داعمًا لانفصال الجنوب.

أحد أسباب غياب الدعم الدولي هو الخوف من زعزعة استقرار اليمن المزعزع أصلا، وخوفًا من انقسامه داخليا وفقًا لمعطيات الحراك الحالي المنقسم بدوره، الأمر الذي سيؤدي لزعزعة الاستقرار، وربما إلى حرب أهلية أخرى ستؤثر على أمن منطقة الخليج بالكامل، خصوصا عمان التي تعتبر وحدة اليمن من أولوياتها، ظهر هذا جليًا عندما سحبت عمان حق اللجوء السياسي من علي سالم البيض وألغت إقامته؛ بسبب مخالفته شروط اللجوء وانخراطه في أنشطة سياسية تحرض على الانفصال، بالإضافة للموقف الرسمي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الداعم للوحدة.

أدى عدم وجود دعم دولي أو إقليمي للحراك إلى جعل تحركاته بطيئة للغاية، وأثر على إمكانية تنفيذ فعالياته وفتح مكاتب له في الخارج وتمويل قنوات إعلامية لكسب التعاطف.

سيناريوهات مستقبلية

وفقًا للمعطيات الحالية فهنالك ثلاثة سيناريوهات محتملة للقضية الجنوبية:

الأول: نشوب حرب أهلية جديدة، وهو سيناريو مرشح للحدوث قريبا، خاصة وأن هناك مجموعة جنوبية خارج الحراك موجوة في هياكل السلطة، تتحدث باسم الجنوب في مؤتمرات الحوار الوطني، ولا تتفق مع حل الانفصال، فإذا تم الوصول لحل ما بخصوص قضية الجنوب لا يشمل الانفصال بعد انتهاء الحرب الجارية، دون اعتبار لرأي الحراك وإقصائه من المفاوضات، ستتوجه قوات يمنية لوأد كيانات الانفصال كما حدث في الماضي، ويمكننا توقع سيناريو الحرب الأهلية مرة أخرى، خصوصًا أنهم سيقابلون برد عنيف من الجنوب.

الثاني: اقتتال داخل الجنوب بين فصائل الحراك والتنظيمات المسلحة الجديدة التي ظهرت في السنوات الأخيرة، وفقًا لتقرير مجموعة الأزمات الدولية هذه التنظيمات ليست كتلة واحدة، فمنها تنظيمات سلفية تناصر القاعدة، ومنهم من يناصر داعش. يمكن للحكومة الشمالية أن تكون فاعلة بشكل خفي في هذا السيناريو، حيث أنها ستكون حربًا بالوكالة ضد الحراك الذي يمثل خصمًا سياسيًا عنيدًا يودون التخلص منه.

الثالث: وصول الشمال والجنوب بعد انتهاء الحرب الحالية لاتفاق أن يكون الجنوب ضمن دولة فيدرالية، ويتم مراعاة التوزيع والمشاركة العادلة مع الجنوب في الحصص السياسية والموارد، وإقرار حياة سياسية وحزبية حقيقية لاحتواء المطالب الانفصالية، هذا الحل سيعطي الفرصة لإنهاء وجود الفصائل المسلحة الصغيرة التي من الممكن أن تتشعب في المستقبل وتؤثر على الاستقرار. سيكون هذا السيناريو مقبولاً من الأطراف الدولية التي تتحاشى المزيد من الحروب والتعقيدات في اليمن، والأطراف الإقليمية التي تبحث عن الاستقرار في اليمن باعتباره مفتاحًا لأمن منطقة الخليج العربي برمتها.

باحث مشارك في مركز التقدم العربي للسياسات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.