الانسحاب الأمريكي من العالم يبدو شاملا وليس جزئيا
متابعات: مركز تقدم للسياسات
الواقع أن الجرأة التي يبديها الرئيس دونالد ترامب في إعادة صياغة قواعد الدبلوماسية الأميركية كانت لافتة. وأشعلت تصريحاته جدلا وارتباكا شديدا ليس في أوروبا وحدها بل في العديد من البلدان التي تعد حليفة مقربة للولايات المتحدة. فقد جاء تهديده بفرض رسوم جمركية على أصدقاء أميركا في وقت سيئ بالنسبة للعديد من البلدان. بعد تباطؤ النمو الاقتصادي في العديد من بلدان مجموعة السبع الكبار، وتكافح الدول للتعامل مع ارتفاع معدلات التضخم، ومن شأن الرسوم الجمركية التي يهدد ترامب برفعها، أن تلحق اضرارا بالقطاعات المعتمدة على التصدير. والواقع أن اثار مناورات ترامب الجيوسياسية أسوأ بشكل قاطع من التدابير الجمركية.
ظلت بلدان عديدة تعتمد على المساعدات الأمنية الأميركية، مثل أوكرانيا وتايوان، وباتت تخشى اليوم التخلي عنها بالفعل. والآن، أُبلِغت غرينلاند وكندا بأنهما على قائمة الاستحواذ الأميركي على الأراضي. ويحاول الزعماء الوطنيون في المكسيك وكندا وأوروبا جاهدين إيجاد استجابة مناسبة. وكل هذا يشير إلى كتاب قواعد جديدة تماما من قِبَل ترامب يتضمن التخلي عن الأدوار والمؤسسات والآليات التي ضمنت زعامة أميركا العالمية وهيمنتها.
بالمقابل، سارع العديد من المراقبين السياسيين والمعلقين الإعلاميين إلى تحليل تصرفات ترامب، بصورة وصفها بعض المعلقين بالسطحية. فقد نشرت صحيفة الغارديان البريطانية افتتاحية تشير إلى أن ترامب يتصرف بطريقة غير عقلانية وانتقامية ومتهورة، بما يُنذر بعودة الشعبويين اليمينيين المتطرفين والمتنمرين الخارجين عن القانون والمستبدين المناهضين للديمقراطية. وعبّر كبير الكتّاب في شبكة CNN، زاكاري ب. وولف، عن رأي مماثل، مشيرًا إلى أن ترامب يقود الحزب الجمهوري بشكل غير مسؤول نحو مسار شعبوي. أما مراسل BBC في الولايات المتحدة، توم باتيمان، فقد رأى أن ترامب لا يملك فهمًا واضحًا للسياسات، بل يطلق رسائل متضاربة، لا سيما فيما يتعلق بأوكرانيا وغزة
قراءات:
– يركز تحليل حديث أجرته وكالة بلومبرغ على نهج ترامب تجاه أوروبا، خاصة في ضوء تعليقاته بشأن روسيا وأوكرانيا، ويخلص إلى أن إطاحة ترامب المفاجئة بالضمانات شرق الأطلسي القائمة منذ عام 1945 ، تضع أمن القارة في على المحك، وتشير إلى مستقبل جديد. ويذكرون أنه في مؤتمر ميونيخ الاخير، أفسحت الآهات والنظرات الجانبية القلقة المجال للصمت عندما تحول نائب الرئيس جيه دي فانس الى مركز الصدارة في المؤتمر، حين صب نيران الاحتقار على حلفاء الولايات المتحدة القدامى ونظرته الدونية لأوروبا.
– كان الامر اختبارًا قاسيًا للواقع: أوروبا لم تعد أولوية للرئيس كما كانت بالنسبة للرؤساء الامريكيين السابقين، وبالتأكيد لن تضيع أمريكا الترامبية الوقت في كونها ضامنة تقليدية للقارة وأمنها.
– من جهتها كتبت صحيفة نيويورك تايمز تحليلاً وصف نهج ترامب حتى الآن بأنه “إغلاق الستار على القرن الأمريكي”. الواقع أن المنطق الذي يملي النظرة الجديدة بسيط، كما يشير أحد المراقبين: “إن وظيفتي هي تعزيز المصالح الوطنية الأميركية، وليس إهدار أموال دافعي الضرائب”. واقترح محلل آخر لصحيفة نيويورك تايمز أنه لم يعد هناك أي شك: فالنظام الذي بُني على مدى عقود من الزمان إلى حد كبير من قبل القوة الأميركية، يتم التخلص منه الآن. إنه النظام العالمي – ما بعد أميركا ــ الذي جلبته إليكم أميركا نفسها، ترغب في التخلص منه الان.
– في تقييمه لتداعيات لامبالاة ترامب في استمرار دعمه للنظام الدولي الليبرالي، استكشفت مجلة الإيكونوميست اثار ذلك في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وأشارت إلى أنه في حين يعتقد بعض المحللين أن قيام أميركا بأقل قدر من التدخل في أوروبا من شأنه أن يؤدي إلى قيام أميركا بتركز اهتمامها على آسيا، بحيث يأتي “التحول الأميركي نحو آسيا” الذي طال انتظاره والذي انقطع عمليا في النهاية، والواضح أن هناك احتمال كبير بأن أميركا ببساطة سوف تفعل وتستثمر مواردها بصورة أقل في كل مكان.
– كان المعلقون الغربيون بحسب المجلة المرموقة يتكهنون بأن إبرام صفقة مع روسيا من شأنه أن يسمح لأميركا بالتركيز على ردع قوة الصين الصاعدة. لكن المؤشرات تشير أيضا إلى وجود انسحاب أميركي شامل، وليس جزئيا فقط.
– مجلة الإيكونوميست تقول، إن مفهوم “أوكرانيا اليوم، وتايوان غدا” أصبح الآن أكثر إثارة للقلق واحتمالا واقعيا. وأشار أحد المراقبين وحذر من أن تايوان ستصبح “قطعة شطرنج مهجورة” في اللعبة الصينية الأميركية إذا استمرت في التشبث بأميركا.
خلاصة واستنتاج:
** إن انحراف إدارة ترامب الجذري عن السياسة الخارجية الأميركية التقليدية ليس مجرد تحول مؤقت بل علامة حاسمة لواقع جيوسياسي جديد. بما يقتضي التخلص من التحالفات والمؤسسات والالتزامات الأمنية والمالية القائمة منذ فترة طويلة.
** تعمل الولايات المتحدة بنشاط على تفكيك النظام الذي بنته ذات يوم. هذا ليس إعادة تدوير استراتيجي، بل فك ارتباط شامل مع العالم والعودة للبناء داخليا من اجل صوغ مستقبلها القادم.
** التقدير بانه مع تراجع أميركا، سوف تنشأ فراغات القوة، مما يدفع الحلفاء إلى إعادة التفكير في اعتمادهم الأمني لصيانة مستقبلهم والتعامل مع المنافسين.
** لم يعد عالم ما بعد أميركا احتمالا بعيدا؛ إنه يتكشف الآن، ويعيد تشكيل توازن القوى بطرق من شأنها أن تحدد مستقبل العقود القادمة.