الاختراق العسكري الأوكراني في روسيا: الحدث والرهانات!
د.محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ورقة سياسات:
• ملخص تنفيذي
• يهدف الاختراق الذي حققته القوات الأوكرانية في كورسك داخل الأراضي الروسية إلى نقل جانب من الحرب إلى روسيا وتحسين موقف كييف التفاوضي.
• الاختراق هو سابقة منذ بداية الحرب الأوكرانية، ويثير أسئلة في روسيا، وهو يساهم في تعقيد راهن هذه الحرب ويبعد احتمالات التفاوض.
• حظيت أوكرانيا بدعم الحلفاء الغربيين وتأييدهم لاستخدام أسلحة غربية في الهجوم الأخير من دون الاعتراف بأي انخراط في أي هجوم يستهدف الأراضي الروسية.
• تعوّل أوكرانيا على نجاح عملية الاختراق لإقناع واشنطن والناتو بزيادة ومواصلة الدعم العسكري لكييف بعد فترة من الشكّ والتحفّظ.
• تُحضر روسيا بتأنٍ وسائل وإمكانات الهجوم المضاد لإغلاق ملف الاختراق الأوكراني واستعادة تفوّق القوات الروسية في الحرب.
• تقديم:
أعادت العملية العسكرية التي قامت بها القوات الأوكرانية في منطقة كورسك، غرب روسيا، خلط أوراق الحرب بين البلدين. وفي الوقت الذي ما زالت التقييمات العسكرية المحايدة حذرة في إعطاء حكم حاسم بشأن مستقبل عملية الاختراق التي حققتها أوكرانيا داخل الأراضي الروسية، فإن المراقبين يتوقعون ردّا عسكريا مضادا تُعدّه موسكو للعمل على محاولة طرد القوات الأوكرانية من الأراضي الروسية، ما من شأنه إضافة تعقيدات جديدة على الحرب في أوكرانيا.
وتطرح عملية القوات الأوكرانية في كورسك، لا سيما إذا ما تمكّنت من الصمود طويلا، أسئلة بشأن ما يفرضه هذا التحوّل من أمر واقع جديد من شأنه أن يكون مضادا للأمر الواقع العسكري الروسي الذي فرضته روسيا داخل 4 أقاليم سبق أن أعلنت ضمّها رسميا إلى السيادة الروسية. ولا ريب أن التطوّر العسكري الجديد وما سيليه من تطوّرات مضادة سيملي قواعد جديدة على اقتراب أو ابتعاد موعد الجلوس على طاولة المفاوضات، ناهيك مما سيظهر من توازنات جديدة تفرض نفسها على أي جدول أعمال للتفاوض وأي مآلات للتسويات المحتملة.
• عملية كورسك: مفاجآت كييف
في 6 أغسطس 2024 نفّذت القوات الأوكرانية اختراقا مفاجئاً للحدود الأوكرانية الروسية باتجاه منطقة كورسك جنوب غرب روسيا. وبالنظر إلى قلة المعلومات الرسمية الصادرة عن كييف وموسكو، ظهر لاحقاً أن الأختراق نوعيّ شارك به سلاح المدرعات والمدفعية والصواريخ وحظيّ بتغطية جوية من قبل المسيّرات. وقد بدأ يرشح لاحقا من البيانات الروسية والأوكرانية، ومن مصادر متخصصة محايدة، ما يفيد أن القوات الأوكرانية سيطرت على أكثر من من ألف كلم مربع وعلى عشرات من البلدات والمراكز السكنيّة.
وقد تطوّر الوضع الميداني مذاك ليسلّط الضوء على عدة عوامل ومعطيات منها:
1-كشف الهجوم الأوكراني أنه ليس عملية خاصة وخاطفة، وليس عملا انتقاميا وانفعاليا، بل هو تحرّك عسكري مُحكم التخطيط، تشارك به قطعات عسكرية متعدّدة الاختصاصات، هدفه التمركّز داخل الأراضي الروسية، وليس تنفيذ ضربات محدّدة والانسحاب إلى داخل الأراضي الأوكرانية.
2-ظهر من طبيعة العملية العسكرية والإمكانات البشرية والتقنيّة الموضوعة لها، أن التطوّر لا يستهدف تحقيق منجز ميداني عسكري تتطلبه معارك الجبهات من كرّ وفرّ، بل يطمح إلى خلق أمر واقع جديد، من شأنه أن يخلّ بالتوازنات وجعلها أمرا واقعا يمكن إملاؤه على أية طاولة مفاوضات لإنتاج تسوية تنهي الحرب المندلعة منذ 24 فبراير 2022.
3-نُفّذت العملية، في التوقيت والظروف والشروط والمعايير، بناء على تخطيط شديد التعقيد واستنادا على كمّ هائل من المعلومات النوعية بشأن حجم وطبيعة القوات الروسية الموجودة في كورسك، كما طبيعة خطوط الدفاع ومناعتها ومواطن الضعف فيها.
4-إضافة إلى الواقع العسكري للاختراق الأوكراني، فإن العملية استهدفت سمعة الجيش الروسي وسمعة قادته، ما من شأنه فرض اختلالات تفرّض على موسكو إحداث تغييرات هيكلية كبيرة، من شأنها التأثير على معنويات الجيش الروسي والثقة بقدراته على حماية أمن روسيا نفسها.
• اختراق كورسك: الأهداف السياسية
بالنظر إلى الأداء العسكري للقوات الأوكرانية في كورسك، وعلى الرغم من ضبابية المعلومات بشأن إمكانات صمود الاختراق الأوكراني أمام الهجوم المضاد المنتظر، فإن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، والمنابر الرسمية الأوكرانية تعاملت بحذر مع الإنجاز العسكري، وبدت متأنية في إدراج “تطوّر ميداني” داخل السياق السياسي الشامل. ويمكن هنا رصد مجموعة من الملاحظات التالية يمكن أن يُستنتج منها الأهداف السياسية التي تعوّل عليها كييف:
1-تأخر الرئيس الأوكراني في الحديث بشكل مباشر عن العملية العسكرية للقوات الأوكرانية في كورسك. واعتمد زيلنسكي على الإيحاء بالعملية من خلال حديثه عن نقل الحرب إلى داخل الأراضي الروسية. غير أن هذا التحفّظ تراجع بعد استنتاجه استمرار عملية الاختراق وقدرتها على التمرّكز والتوسّع والتحصّن.
2-تعمّد الرئيس الأوكراني ترك أمر الكشف عن العملية العسكرية للبيانات الصادرة عن الجيش الأوكراني والتقارير التي يقدمها قائد القوات الأوكرانية الجنرال أولكسندر سيرسكي الذي تمّ تعيينه في فبراير الماضي.
3-ظهر أن إدارة المعركة السياسية تهدف إلى بعث رسائل ثقة إلى الداخل الأوكراني بشأن قدرات الجيش الأوكراني على كسر رتابة المعركة وقلب وجهتها الذاهبة منذ أشهر إلى مزيد من قضم القوات الروسية للأراضي الأوكرانية.
4- تهدف العملية العسكرية إلى بعث رسائل تهويل إلى الداخل الروسي للنيل من هيبة الجيش الروسي داخل الأراضي الروسية وهزّ الالتفاف الداخلي المفترض حول الحرب التي أعلنها الرئيس الروسي ضد أوكرانيا منذ أكثر من عامين ونصف.
5-تودّ كييف إحداث توازن مضاد يمكن التعويل عليه على طاولة المفاوضات. وكانت روسيا قد اشترطت قبول الطرف الأوكراني لـ “الوقائع على الأرض”، وهي الصيغة التي استخدمها وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لقبول كييف بسيطرة روسيا على الأقاليم الأربعة (زابوروجيا وخيرسون ودونيتسك ولوغانسك ) التي أعلنت موسكو ضمّها إلى الأراضي الروسية في 30 سبتمبر 2022، إضافة إلى التسليم نهائيا بضمّ روسيا لشبه جزيرة القرم التي احتلها هجوم روسي عام 2014.
6-تعوّل كييف على إنجازها العسكري داخل الأراضي الروسية لإقناع حلفائها في المنظومة الغربية، لاسيما الولايات المتحدة ودول حلف شمالي الأطلسي، بنجاعة الاستمرار في تقديم الدعم والمدّد العسكري للقوات الأوكرانية. وكانت ظهرت في الأشهر الأخيرة أعراض جدل ونقاش وتململ داخل هذه المنظومة بسبب فشل أوكرانيا في تحقيق أي انقلاب في موازين القوى من خلال الهجوم المضاد الذي وعدت به. وإضافة إلى ظهور بدايات انقسام في الموقف الأوروبي بشأن حجم ومنافع وكلفة الدعم لأوكرانيا، تأخرت إدارة الرئيس جو بايدن في واشنطن في الإفراج عن رزمة جديدة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا بسبب تحفّظات وشروط أثارها الحزب الجمهوري المعارض داخل الكونغرس.
• الموقف الغربي: تفهّم ونأي بالنفس
يمكن قراءة لبس وتطوّر موقف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وفق الملاحظات التالية:
1-سارعت المنابر الرسمية الأميركية وتلك التابعة لحلف شمالي الأطلسي إلى نفيّ الاتهامات التي صدرت عن موسكو بشأن فرضية الدعم الذي قدمه الغرب لأوكرانيا لتنفيذ عملية الاختراق في منطقة كورسك. وأجمعت المصادر الغربية، على نحو بدا منسّقا، على التأكيد أن الحدث جرى بقرار أوكراني ذاتي ومن خلال استخدام إمكانات وقدرات عسكرية أوكرانية. حتى أن واشنطن نفت مشاركة أي معلومات ميدانية مع الطرف الأوكراني بغية نأي الولايات المتحدة بنفسها عن أي هجوم يستهدف الأراضي الروسية.
2-على نحو يكشف تطوّر العقيدة العسكرية الغربية حيال الحرب في أوكرانيا، لم تتحفّظ العواصم الغربية على الإقرار بحقّ كييف في استخدام أسلحة غربية في هجوم القوات الأوكرانية في كورسك. وقد اعتبرت واشنطن أن استخدام أسلحة أميركية في الهجوم “يتّسق تماما مع السياسة الأميركية”، فيما اعتبرت الحكومة البريطانية أن من حقّ أوكرانيا استخدام أسلحة بريطانية، لا سيما المدرعات، في ذلك الهجوم.
3-رغم إظهار العواصم الغربية استمرار دعم أوكرانيا واحترام قرارها الذاتي في القيام بعملية عسكرية داخل الأراضي الأوكرانية، ورغم عدم وجود ممانعة، كتلك التي كانت حازمة في بدايات الحرب، لاستخدام الأسلحة الغربية المقدمة لأوكرانيا لـ “الدفاع” عن نفسها، غير أن المنابر الرسمية الغربية كما الصحافة والخبراء العسكريين المتحدثين للإعلام الغربي لم يظهروا أي مواقف “انتصارية” أو إيمانا كليا حازما في ما يمكن أن تحققه العملية العسكرية الأوكرانية داخل الأراضي الروسية.
• الموقف الروسي: ارتباك واستعداد للهجوم المضاد
يمكن قراءة تطوّر الموقف الروسي وقراءة واستشراف احتمالاته المقبلة من خلال رصد مسار متدرّج ومرتبك منذ بداية الهجوم الأوكراني في كورسك وفق المؤشرات التالية:
1- لم يكتشف العالم جدّية وخطورة الاختراق الأوكراني للأراضي الروسية إلا من خلال البيانات التي بدأت تصدر عن السلطات الروسية المركزية والمحلية والمنابر العسكرية للجيش الروسي التي كشفت العمق الذي وصلت إليه القوات الأوكرانية وعدد التجمعات السكنية التي تمّت السيطرة عليها .
2- فضحت لهجة هذه البيانات وما تضمنته من تدابير وإجراءات، حقيقة أن العملية الأوكرانية ليست تسللا عرضيا، وأن معالجة هذا الاختراق ليست آنية بل تحتاج الوقت والإعداد والنفس الطويل.
3- لفت مراقبون قرار السلطات الروسية إخلاء السكان من المنطقة التي تعرّضت للاختراق الأوكراني والذي طال ما يقارب 100 ألف نسمة، ما يعني أن لا هجوم مضادا قبل انتهاء عملية الإجلاء، وأن عملية تحرير الأراضي الروسية التي سيطرت عليها القوات الأوكرانية في تلك المنطقة، يحتاج إلى عملية عسكرية كبرى تتطلّب كثافة نيران من شأنها تدمير البنى المدنية في مدن وقرى المنطقة.
4- طرحت عملية الاختراق أسئلة ما زالت مكتومة بشأن التصدّع القيادي والهيكلي والعملياتي داخل الجيش الروسي الذي أتاح تقدم القوات الأوكرانية بشكل مذهل وانسيابي من دون مقاومة تُذكر. ويعيد طرح هذه الأسئلة تلك التي أثارها مؤسّس مجموعة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، قبل أشهر من مقتله بشأن خلل داخل وزارة الدفاع وقيادة الجيش الروسي وسبّبت اخفاقات في أوكرانيا.
5- من الجدير ملاحظة أن اعتراف الطرف الأوكراني أن عملية الاختراق في كورسك لم تخفف من ضغوط القوات الروسية على الجبهات داخل أوكرانيا، تكشف سعيّ موسكو إلى عدم تمكين الاختراق الأوكراني من تحقيق هدف إجبار الجيش الروسي على سحب بعض من قواته في شرق أوكرانيا وإعادة نشرها داخل روسيا للدفاع عن الأراضي الروسية. والمرجّح، وفق الخبراء، أن تستعين موسكو بقوات من داخل روسيا للتعامل مع التحدي المستجد في كورسك من دون أن تفقد مكاسبها داخل الأراضي الأوكرانية.
6- يظهر من ردّ فعل موسكو أن الإعداد للردّ العسكري يستلزم ما يحتاجه من وقت، بما في ذلك إنهاء الإجلاء الكامل لسكان ميدان العمليات المقبل، وإعلان حالة الطوارئ في مقاطعات كورسك وبيلغروود وبريانسك، ودفع قوات كثيفة لمحاصرة القوات الأوكرانية في المنطقة.
•خلاصة واستنتاجات
** لجأت أوكرانيا إلى عملية الاختراق داخل الأراضي الروسية وفق مبدأ أن الهجوم أفضل سبل الدفاع. وقد بدا أن هدف الاختراق ليس عملية عرضية، بل هدفها التمركز والتوسّع وإحداث أمر واقع جديد على مسرح العمليات الكبير.
** تسعى أوكرانيا لنقل جانب من الحرب إلى داخل الأراضي الروسية واحتلال أراض يمكن أن تقوي موقف أوكرانيا في أية مفاوضات. وتعوّل كييف على هذا الإنجاز لإقناع الحلفاء الغربيين بمواصلة ورفع مستوى دعمهم العسكري لأوكرانيا.
** المشهد الجديد قد يعرقل جهود الذهاب إلى طاولة المفاوضات، لا سيما أن روسيا تحتاج إلى ردّ الاختراق الروسي واستعادة تفوقها الميداني الذي حققته خلال الأشهر الأخيرة.
** أظهرت المنظومة الغربية دعم أوكرانيا وتأييدها استخدام أسلحة غربية في الهجوم الأخير داخل الأراضي الروسية، لكنها ما زالت تنفي وترفض تورطها المباشر في أي هجوم يطال الداخل الروسي.