ملخص تنفيذي:
اثار موضوع المقاتلين المسلمين الأوروبيين في صفوف داعش، وعودتهم الى ديارهم، مجموعة من الأسئلة السياسية والاجتماعية والقانونية. وقد ثار الجدل في عدد من الدول الاوروبية حول محاكمتهم في بلدانهم او نزع جنسياتهم وتركهم لمصيرهم بمحاكمتهم لدى مليشيات خارجة على القانون، وتركز الجدل حول المواطنين من غير مزدوجي الجنسية، وبالتالي يصبح من المتعذر على دولهم وحكوماتهم تجريدهم من مواطنتهم. كثير من النقاش القانوني يجري تحميله على المثقلات السياسية والدوافع الايديولوجية بما يتجاوز مبادئ القانون الدولي الإنساني، ويحصر في زاوية ضيقة تتعلق بقضايا الإرهاب وتهديد الامن الوطني للدول التي ينتمي اليها هؤلاء المقاتلين.
مقدمة:
تتقاطع غالبية التقارير حول أعداد المقاتلين الأوروبيين في صفوف داعش الى نحو خمسة الى ستة الاف مقاتل من أوروبا، ويشار الى 880 مقاتل يحملون الجنسيات الأوروبية معتقلون في السجون السورية والعراقية. وقد بادرت دول فرنسا وهولندا وبلجيكا باستعادة أبناء المقاتلين من الأطفال اليتامى او يخططون للتشريع بذلك. بعض الدول الأوروبية تقترح القيام بتشكيل محاكم دولية لمحاكمة هذا النوع من المقاتلين بحيث تعقد المحاكمات في المنطقة، وذلك بحجة تسهيل الإجراءات القضائية حيث الشهود والضحايا والقرب الجغرافي من مسرح الجريمة. وهناك تخوف حقيقي من ان عرض هؤلاء المقاتلين على المحاكم في حالة عودتهم سينتج عنه براءتهم لكونه من الصعب على أحد ان يثبت ارتكابهم لأي من الجرائم اثناء انضمامهم للقتال في صفوف داعش.
على الرغم من ان حوالي ألف مقاتل عادوا الى المانيا وحوكم جزء منهم وتم إحالة الجزء الاخر الى مراكز التأهيل وتم الافراج عن الجزء الأخير. كما ان شمال مقدونيا وكوسوفو استعادتا عددا من مواطنيها الذين قاتلوا في صفوف داعش في 2018.
الحكومة البريطانية جعلت منهم موضوعا سياسيا بامتياز. علما بأن هناك قامات قانونية مهمة طالبت باستعادة هؤلاء المقاتلين ممن حصلوا على الجنسية بالولادة او عبر التجنيس ومحاكمتهم وفقا للقانون البريطاني. حيث اعتبر رئيس دائرة الادعاء العام البريطاني السابق كين ماكدونالد (محامي ملكي) ان عدم مواجهة هذا الوضع القانوني والتعامل مع هؤلاء المقاتلين ضمن القواعد القضائية البريطانية يجعل من المملكة المتحدة وكأنها جمهورية موز، وليس لديها ثقة بنظامها القانوني ونزاهته وعدالته. وقد أكد على ان الموضوع تم تسييسه بطريقة تلقي العبء على كاهل الدول الأخرى حول العالم، مما يعطي إشارات على نقص الثقة بمؤسسات العدالة في الدولة.
بين القانون والأخلاق والسياسة
يعتبر بعض الخبراء القانونيين بأن رفض استعادة او استقبال ومحاكمة مقاتلي الدولة الإسلامية، هروبا من المسؤولية القانونية والأخلاقية، يحمل في طياته تنازلا عن سيادة الدولة، وخصوصا ان بريطانيا لم تطلب أية ضمانات قانونية في محاكمات عادلة لمتهمين بريطانيين متهمين بالإرهاب سلمتهم للولايات المتحدة. من جهته تقدم وزير الخارجية السويدي مايكل دامبيرغ باقتراح التقط في لندن واعتبر واقعيا، ويقوم على تشكيل محكمة دولية خاصة لمحاكمة المقاتلين الاوروبيين توفر برأيه ممرا قانونيا للتخلص من هذه المشكلة نهائيا دون التسبب بإحراجات سياسية وامنية للدول التي ينتمي اليها هؤلاء المقاتلين. المفارقة ان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب طالب بتحمل الدول الأوروبية لمسؤولياتها القانونية واستعادة هؤلاء المقاتلين ومحاكمتهم في بلدانهم.
لا تبدو المقاربات المترددة هنا والتي تبرر بها الدول الأوروبية مواقفها من هذه القضية مقبولة او متناسبة مع ما تروجه من احترام لحكم القانون وللإجراءات القضائية ونزاهتها وحمايتها لحقوق الانسان. حيث ان دولة مثل كوسوفو على سبيل المثال قامت باستعادة حوالي 110 ممن قاتلوا في صفوف داعش لمحاكمتهم بموجب نظامها القضائي. وبالتالي فان الحجج التي تسوقها الدول الأوروبية تعتبر واهية او تهربا من المسؤوليات القانونية التي تفرضها الأعراف والقوانين الخاصة بحقوق الانسان وضمان المحاكمات العادلة.
تعتبر أكثر الأمور خطورة وحساسية، سحب الجنسية من المقاتلين كما فعلت بريطانيا مع عدد منهم. علما بان هذه الخطوة مخالفة لمعاهدة الأمم المتحدة 1961 والتي هدفت الى التقليل من فاقدي الجنسية (البدون) حول العالم. الا ان الحجة التي ساقتها وزارة الداخلية البريطانية هو ان هؤلاء يتمتعون بجنسية بلد اخر او مزدوجي الجنسية كما يصطلح على تسميتهم في القانون وهو ما تدعمه نصوص الدستور البريطاني، والذي يعطي البرلمان الصلاحية لتنظيم الإجراءات التي تؤدي الى القيام بالحرمان من المواطنة بالنسبة لمزدوجي الجنسية. علما بان دول أوروبية أخرى وعلى راسها المانيا تحرم القيام بذلك حتى مع مثل هذا النوع من المواطنين. وبالنسبة لبلجيكا وفرنسا والدنمارك فان القيام بهذه الخطوة بحاجة الى محاكمات وإجراءات قضائية تفضي الى ادانة جنائية حتى تتمكن الحكومة من حرمان هؤلاء المقاتلين من جنسياتهم.
السياسة والامن قبل القانون والقضاء
على عكس ما تروج أوروبا نفسها وخصوصا دول الجزء الغربي منها بحرصها الشديد على رعاية حقوق الانسان، وحماية هذه الحقوق ضمن منظومة قانونية وقضائية شفافة، تحرس الحقوق الأساسية التي لا تنازل عنها، ومنها ان لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، ولا ادانة الا بقرار قضائي ومحاكمة عادلة، تشير الكثير من تقارير الخبراء بأن مسالة عودة او استقبال المقاتلين الأجانب ممن يحملون الجنسيات الأوروبية يتم التعامل معها بشكل سياسي وأمني بعيدا عن القانون والقضاء. وفيما يبدو بأن ذلك راجع الى مغازلة الرأي العام الداخلي، وربما أيضا اظهار التشدد حيال القضايا التي تخص المسلمين مما يدلل بشكل او باخر على نزعة الاسلاموفوبيا المتصاعدة في عموم القارة الأوروبية. لأنه وفي هذا السياق، تقر الأنظمة القضائية والقانونية في هذه الدول مبدأ استعادة المجرمين الذين يحملون جنسياتها بل ويركزون جهودهم القانونية من خلال مذكرات وإجراءات شرطية متعارف عليها مثل مذكرة الاعتقال الأوروبية لاعتقال وتسليم هؤلاء المجرمين او المتهمين بارتكاب الجرائم الخطيرة والتي تشمل تهريب البشر والعبودية الحديثة وتجارة المخدرات والجريمة المنظمة، والتي لا تقل خطورة عما يتهم به المقاتلون الأوروبيون في صفوف داعش وغيرها من الفصائل الإسلامية المتطرفة.
محاكمات سياسية ذات طابع شعبوي
بالرغم من الاقتراحات القانونية التي تتمحور حول إمكانية إنزال عقوبات قاسية ضد المدانين بتهمة القتال في صفوف داعش والتي يوفرها القانون البريطاني وفي عدد من الدول الأوروبية الأخرى، فان الحكومات وخصوصا في بريطانيا لا تحاول ولا ترحب حتى بمناقشة هذه العودة. حيث ان بعض القانونيين اقترحوا ان يحاكم المقاتلون بتهمة الخيانة التي تصل عقوبتها السجن مدى الحياة ردا على المشككين بإمكانية إنزال عقوبات رادعة بحق المقاتلين العائدين. ولهذا يلاحظ أن الحكومات تقوم بمحاكمة مواطنيها المشتبه بهم بارتكاب جرائم غير مثبتة تنفيذا لأجندة سياسية فقط. الخطورة الحقيقية قد تتمحور حول مقاربة الاسلاموفوبيا التي تتعامل بها بعض الحكومات الأوروبية مع المقاتلين فقط لأنهم مسلمون، بينما قد تكون الأمور مختلفة في حالة لو كانوا غير مسلمين. بعض التعليقات المحقة تشير الى ان المقاربات الرسمية تأتي استجابة لضغوط الخطاب الشعبوي اليميني الذي اجتاح أوروبا في السنوات الأخيرة. فاليمين الجديد ذي الصبغة الفاشية لا يخفي استهانته بالقوانين والبرلمان والمؤسسة السياسية، بل يتجاوز ذلك بالدعوة الصريحة الى التخلي عن كل القيم والمنظومات الليبرالية التي قامت عليها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وتصمت هذه التيارات اليمينية عن الاختراق الفاضح للقواعد المنظمة لاحتجاز أسرى الحرب والتي تحتم على الدول التي تحتجزهم ان تقوم بتحريرهم بعد انتهاء النزاعات المسلحة، وهو ما تخالفه الدول والمنظمات في تعاملها مع المقاتلين الأجانب.
الخلاصة:
الملاحظة الأهم التي يمكن تسجيلها على هامش جدل مصير المقاتلين الأوروبيين في صفوف داعش وغيرها من الفصائل الإسلامية المسلحة، هي نزوع معظم الحكومات التي ينتمي لها المقاتلون الى اجتراح حلول سياسية تخاطب النهج الشعبوي المتصاعد في أوروبا. فقلق الحكومات يبتعد عن الأسئلة القانونية المثارة وإمكانية توفير المحاكمات العادلة في ظل الإجراءات القضائية المتعارف عليها في كل أنواع الجرائم. في المحصلة فان السؤال الذي يثار هنا، ما إذا كانت الحكومات ستتذرع بالضرورات السياسية والأمنية في حالة كان الموضوع يتعلق بغير المسلمين من أولئك الذين يرتكبون جرائم عظمى لا تقل في خطورتها عن هؤلاء المقاتلين. يضاف الى ذلك، سؤال يتصل بكيفية التعاطي مع القانون كأداة تستخدم أحيانا ويتم تجميدها والتذرع بعدم صلاحيتها في التعامل مع الجرائم الكبرى مما يشرعن لفكرة يروج لها، وهي أن الجميع يخضع لحكم القانون دون تمييز. ليس هناك أي حلول سحرية لهذا الملف حتى بتشكيل محكمة دولية تقام لهذا الغرض حصرا كما اقترح البعض. يتلخص الحل العادل في إعادة هؤلاء المقاتلين واخضاعهم للنظام القضائي وعرضهم على محاكمات محلية عادلة، تتوافق مع المعايير القانونية وما تمليه قواعد القانون الدولي المتعارف عليها في هذا الشأن. ويظل السؤال الغائب عن الجدل الاوروبي، ما الذي دفع بمواطنين أوروبيين ولدوا وترعرعوا في كنف الثقافة والتعليم الاوروبي وبعضهم من الجيل الرابع والخامس للالتحاق بقوى التطرف والإرهاب والبحث عن حلم الدولة الإسلامية الخالصة، فهؤلاء المقاتلون المندفعون نحو الموت، لا يعرفون وطنا غير وطنهم الحالي، وبعضهم لا يتقن لغة الآباء والاجداد، لا يوجد من إجابة سوى فشل الحكومات الغربية في ادماج مواطنيهم في مجتمعاتهم ، وبات من ضرورات المراجعة الشروع في عمل جاد ضد التمييز في التعليم والسكن وفرص العمل ، وتشريع القوانين الضامنة للمساواة والعدالة بين المواطنين .