اجتماع جنيف السوداني والدوران في الحلقة المفرغة

محمد مشارقة*

التصريحات التي أطلقت من معسكر رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان ووزارة خارجيته التي يتهمها خصومه بانها مختطفة من التيار الإسلامي، تزيد من احتمالات اجهاض الدعوة الامريكية للقاء فريقي الصراع الدموي المسلح في جنيف منتصف الشهر الجاري. ورغم ان صفوة العاصمة الجديدة بورتسودان ترجح مسؤولية محاولة اغتيال البرهان بمسيرة الى الصراعات الداخلية بين تيار الحرب والتفاوض، والتقدير كان ان الحادثة قد تدفع البرهان الى الإصرار على حضور جنيف واسكات المعارضين وتقليل تأثيرهم على المشهد. المفارقة ان أصوات العقل تتلاشى في خضم صراخ شعار ” بل بس ” أي استمرار الحرب حتى اخر “بندقجي” من أبناء الهامش الفقراء المضللين، والذين تصفهم وقادتهم دعاية الدعم السريع ب” الفلنقايات” مستخدمي “الجلابة ” من عائلات ونخبة الشمال الذين يتحكمون بالسلطة والثروة منذ الاستقلال وحتى اليوم.
المبادرة الامريكية وشريكها السعودي في جنيف قد تكون الأخيرة لوقف الكارثة الإنسانية، فقد وفرت لها كل عناصر النجاح بدعوة الايغاد والاتحاد الافريقي ومصر والامارات كمراقبين، لكن الظروف الداخلية السودانية وطبيعة القوى أصحاب المعادلة الصفرية يبدو انهم الأقوى، ولا امل غير ان يترك السودان غارقا في دمه وجوعه وتشرد أبنائه الى ان يحرز أحد أطراف الحرب انتصارا ساحقا يجبر المهزومين وحلفائهم على الاستسلام.
اشارت مصادر متقاطعة أن واشنطن تنتظر جدية قيادة بورتسودان بعد الموافقة غير المشروطة للدعم السريع وكذا معرفة مستوى رئاسة الوفود، بعدها يأتي القرار بمستوى المشاركة الامريكية، ويرشح، بالاعتماد على ذلك ترؤس الوفد والافتتاح كل من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن وسفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد.
تضيف المصادر أيضا ان الجدية الامريكية في استئناف منبر جدة من جنيف يعود الى عدد من العوامل في مقدمتها: تحول الصراع في السودان الى بؤرة لصراع القوى الأجنبية المتنافسة على النفوذ والذي قد يطيل أمد الحرب وقد يفيض على الجوار إرهابا وهجرة، كما انه بات يهدد امن الملاحة في البحر الأحمر بعد تطبيع العلاقات بين السودان وإيران ومساعي موسكو في الوصول إلى ميناء سوداني على ممر البحر الأحمر الاستراتيجي.
الخلاصةّ:
كلما اقترب الصراع السوداني من التحول الى بؤرة استقطاب للإرهاب واستدعاء صراعات التاريخ ومخلفات الحقبة الاستعمارية، كلما ظهرت المبادرات الإقليمية والدولية التي تروم حلولا مستحيلة، وجوهر الفشل المستمر انها جميعا تبتعد عن معالجة جذر الصراع الذي لم يعد بالإمكان اختصاره في صراع قطبين في القوات المسلحة او تنافس قائدين على السلطة -البرهان وحميدتي- فهو توصيف ساذج ويدلل على عدم الجدية. ولهذا السبب، أقدر ان جنيف لن تختلف عن سابقاتها من محاولات كان مصيرها الفشل الذريع، وتصريح البرهان برفض التفاوض في حفل تخريج دفعة من منتسبي الجيش والبيان المراوغ للخارجية خير دليل علي عدم توفر إرادة السلام، مما قد يعني إعادة استخدام ذات التكتيكات التي تم بها إجهاض مخرجات جدة والمنامة حتى لو قبلوا بالمبادرة الأمريكية لوقف إطلاق النار في جنيف.
يظل المخرج الذي لا خيار غيره: حكومة انتقالية لسنتين او ثلاثة من خارج كل المحاصصات الحزبية والمسلحة، تؤهل البلاد للانتخابات وتطرح دستورا جديدا للبلاد يؤمن قيام سودان جديد تحكمه ضوابط العدالة والمساواة المقننة، ولا شرعية لاحد خارج خيار الشعب بالانتخابات، والبدء بإعادة تسيير عجلة الدولة وإعادة توطين اللاجئين والنازحين واستئناف عجلة الدولة المنهارة بالكامل. وذلك بعد وقف دائم لإطلاق النار يمهد لجيش واحد ودولة واحدة ذات سيادة واحدة ، وكل ما يتبقى بعدها تفاصيل وثرثرة لملء الفراغ بمزيد من الفراغ.
• مدير مركز تقدم للسياسات في لندن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.