اثيوبيا: ألغام الاستحقاق الانتخابي

علي هندي، وحدة الشؤون الافريقية

ادخلت الحرب ضد جبهة تحرير تيغراي الدولة الاثيوبية في دوامة المواجهات الداخلية وازمة مع الولايات المتحدة الامريكية ستنعكس نتائجها على مشروع رئيس الحكومة ابي احمد الطموح لبناء دولة قوية ومستقرة. لكن الرجل الذي لفت انظار العالم بخطواته الجريئة بالإصلاحات الديمقراطية في الداخل وتصفير المشاكل مع الجوار يقف اليوم عاجزا امام انفلات للأوضاع التي لم يشهد لها مثيلا من قبل. فنيران الحرب مع جبهة تحرير تيغراي ماتزال مستعرة بعد اكثر من ستة اشهر على اندلاعها والمعارك مع الجناح الاورمي المسلح امتدت لتشمل مناطق واسعة من اراضي الاقليم . ومع هذه التوترات العنيفة، اختارت الحكومة اقناع البرلمان بضرورة ادراج جبهة تحرير تيغراي وجيش تحرير الاورومو على لائحة المنظمات الارهابية، لتعلن صراحة رفضها المساعي الامريكية التي حملها للمنطقة المبعوث الامريكي للقرن الافريقي جيفري فلتمان والتي كانت تدعو لحوار مع جبهة تحرير تيغراي. لتضيف تعقيدات جديدة للمشهد الاثيوبي ، ليس أقلها ، احتمال تغيير لخارطة البلاد ومعها خارطة القرن الافريقي ، إذا ما استمر تفاقم الاوضاع الداخلية وفي الجوار.

الانتخابات والاحتمال الاسوأ

ستجري الانتخابات المقررة في الحادي والعشرين من يونيو \ حزيران في ظل مقاطعة الاحزاب الرئيسية في إقليم الاورمو وحرمان سكان اقليم تجراي من المشاركة بسبب الاوضاع الامنية، كما ستحول الاوضاع الامنية دون مشاركة اعداد كبيرة ممن ييعشون في اقليم الاورمو واقليم البني شنقول الذي يعيش تحت وقع المعارك المستمرة بين حركة تحرير بني شنقول ومليشيات الامهرا، ونتيجة لهذه الاوضاع، يبدو المسار الانتخابي مضطربا ومحفوف بالمخاطر. فالإقبال على التسجيل يصل الي ما دون 60 بالمئة من اجمالي الذين يحق لهم التصويت، والدوائر الانتخابية في عموم البلاد لم تشهد حملات دعاية جدية، رغم كل الجهود التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني واللجنة المستقلة للانتخابات التي تقودها القاضية النزيهة والمحترمة برتوكان ميديكسا . جهود لم تقنع المواطن الاثيوبي بجدية الانتخابات ولا بنزاهتها رغم كل الجهود التي تبذلها الحكومة، فالانتخابات السابقة أعوام ٢٠٠٥ و٢٠١٠ و٢٠١٥، جرى التشكيك في نزاهتها ونتائجها، وكانت سببا دائما في استمرار المعارضات المسلحة التي تتخذ من دول الجوار مقار لها في الصراع ضد الدولة. وعلى الرغم من توقيع هذه المعارضات بعد التحول الذي حمله ابي احمد عام ٢٠١٨، والعفو العام عن المعارضين والتوقيع على ميثاق الشرف بين اكثر من مائة فصيل وحركة سياسية ومسلحة في مارس \ اذار عام ٢٠١٩، بنبذ العنف وسلوك الطريق الديمقراطي عبر صندوق الاقتراع، الا ان ارثا طويلا من الشكوك المتبادلة والتوترات العرقية وعودة خطاب التحريض والكراهية، يجعل من الانتخابات القادمة موضع شبهات وقلق على مستقبل البلاد، وبدلا من ان تكون الانتخابات حلا باتت مشكلة لصانع القرار.

لعوامل عديدة تتعلق بامكانيات كل قوى المعارضة والتي تزيد على أربعين حزبا تشارك على المستوى الإقليمي والوطني في هذه الدورة، يمكن القول ان نتائج هذه الانتخابات تبدو مضمونة لحزب الازدهار الحاكم، فهو الاقدر على التقدم بمرشحين على المستوى الوطني والإقليمي بما يوازي كل الأحزاب الأخرى حيث يسخر بصورة علينة كل إمكانيات الدولة ومقدراتها لخدمة الحزب.

ومما يعزز التخوفات من تداعيات هذه الانتخابات انها تجري عمليا باستبعاد قسري لقومية التيغراي وغالبية مكونات الاورومو التي لا تجد لها مصلحة في المشاركة. فقد عجزت الدولة عن حل المظالم التاريخية لهذه القومية والتي تتعلق بالأرض المتنازع عليها مع قومية الامهرا، لهذا تبدو الانتخابات وكانها تجري على المستوى الوطني بين تيارات الامهرا التي تصبغ البلاد بهويتها ولغتها ودينها، ولها نزاعات مفتوحة مع العرقيات المجاورة من بني شنغول الى التيغراي الى الاورومو . فيما تدخل القوميات الأخرى في الانتخابات الإقليمية ولا قدرة لها على المنافسة على مستوى البرلمان الوطني. التخوف الأخر هو ان يؤدي ضعف الاجهزة الرقابية والأمنية في الأقاليم بما في ذلك شحة الامكانيات اللوجستية للجنة الانتخابات المركزية الى انفلات الامور نحو الفوضى الشاملة التي من شأنها دفع الحكومة الى اعلان الاحكام العرفية وعودة الحكم العسكري في نسخة جديدة تختلف في بعض سماتها عن الحكم العسكري الذي سيطر على اثيوبيا بين عامي 1974 و1991.

اثيوبيا في مفترق طرق

قوميتان تبادلتا حكم اثيوبيا تاريخيا، اباطرة وملوك ممكلة اكسوم في تيغراي واخرين من قوندر الامهرية، الى ان جاء الامبراطور يوهنس الذي حكم من اكسوم حتى مقتله في عام 1889، عقبه منيليك الثاني ملك اقليم شوا الذي حولة حاضرة لحكمه بديلا لقوندر ونقل معه الامهرا الي مركزية الحكم الجديدة. وتعود أهمية هذا الملك باني اثيوبيا الحديثة انه ضمن ولاء رجل يوهانس القوي وجنرال حربه الذي انتصر على الجيش المصري الذي حكم اجزاء من ارتريا ممثلا للحكم العثماني، فقد كان الراس (لقب يمنح لكبار القادة العسكريين) ألولا أبا نقا من ابناء التيغراي ، ومثل تحالفه مع مينليك الثاني عقدا سياسيا واجتماعيا بين حكام اثيوبيا الجدد الامهرا والتيغراي ليشكلا معا مركزية الحكم فيما عرف بالهضبة الحبشية . حاز هذا التحالف على مصادقة ودعم الكنيسة الارثوذكسية وشكل ملامح هوية اثيوبيا منذ ذلك التاريخ. لكن انقطاع هذا التحالف والتداول على السلطة بدا عندما قاد التيغراي تمردا على الحكومة المركزية ذات السمة الطاغية للامهرا، متمثلة بنظام منغستو هيلاماريام العسكري ونجحوا في اسقاطه عام ١٩٩١. وعلى الرغم من حفاظ اقلية التيغراي التي لا تزيد نسبتها من السكان عن ال ٦٪ على الخطاب الوطني الجامع ومحاولة اشراك القوميات الكبرى في الحكم، الا انه شكل افتراقا عن قومية الامهرا الكبرى صاحبة التاريخ وصانعة هوية البلاد وصاحبة لغتها الرسمية، كما ضاعف من مظلومية قومية الاورومو الكبرى والتي تشكل نحو ٣٧ ٪ من السكان. بعد موجة من الفوضى والاضطراب قادها أبناء قومية الاورومو في انتفاضة كبرى، صعد ابي احمد ابن قومية الاورومو الى السلطة، حاملا وعودا بالانفتاح والتنمية والديمقراطية للجميع. غير ان ما ميز برنامج ابي احمد للمرحلة الانتقالية انه حل التحالف الحزبي الحاكم ، بقرار فوقي وشكل تحالفا جديدا باسم حزب الازدهار وحدد موعدا للانتخابات التشريعية الوطنية والإقليمية ، كما اقترح أعادة النظر في سلطات الحكومات المحلية لصالح الحكومة المركزية ، وهو ما اعطى مؤشرا جديا على مسعاه لتغيير قواعد السلطة المستمرة منذ ما يزيد على مائة عام وثنائية الامهرا والتغراي في التحكم بالسلطة والثروة ، الامر الذي اثار حفيظة وشكوك غالبية القوميات ، كونه يسعى لتغيير النظام القائم على الفدرالية العرقية الى الدولة المركزية . أولى القوميات التي رفضت السياسة الجديدة للرئيس ابي احمد كانت قومية التيغراي، انسحبت من الصيغة الجديدة لحزب الازدهار، وأجرت انتخابات لبرلمان وحكومة الاقليم دون الالتفات لقرار الحكومة المركزية التي اعتبرت الخطوة بمثابة تمرد على الدولة. باندلاع الحرب على التيغراي لاستعادتها لحضن الدولة، بات واضحا ان البلاد باتت على مفترق طرق. فالحرب في إقليم تيغراي كان راس حربته من قومية الامهرا وميليشياتها غير النظامية، لكن البعد العميق لهذه الحرب، تمثل في انها جرت بصورة حاسمة من خارج أدوات الدولة المركزية، فالمواجهة كانت صريحة بين العنصرين الذين شكلا هوية اثيوبيا الحديثة . ان هذه الحرب تستوجب استدعاء للتاريخ الاثيوبي، لاستشراف طبيعة الصراع الجاري في البلاد وانعكاس ذلك على المعنى الغائم والمشوش لفكرة الهوية الوطنية التي كانت ترجمة لمصالح وامتيازات الامهرا والتيغراي لكنها لا تعني الكثير لدى قوميات كبرى مثل الاورمو والصوماليين الاوغادين والعفر والبني شنقول والسيداما.

أيا كانت السيناريوهات التي ستذهب بها الانتخابات الاثيوبية المقبلة ، تأجيلا او الغاء او اجراءها في الموعد المقرر الا انها ستبقى محل تشكيك في شرعيتها ونزاهتها ، ولن تشكل مدخلا لحلول جذرية لمعضلات ظلت ولعقود طويلة نائمة تحت السطح وتواجه بالانتفاضات المسلحة لرفع مظلوميات تاريخية متوارثة او لاستعادة هويتها وثقافتها الخاصة ضد طغيان ثقافة وهوية قسرية مفروضة من أصحاب السلطة الممتدة لأبناء الهضبة الحبشية ، والاسئلة المفتوحة منذ انطلاق مينيلك الثاني من مملكة شوا لضم الأراضي المجاورة للمملكة المصرية القديمة لأثيوبيا لا زالت راهنة الى يومنا هذا ، والصمغ الذي بدا ظاهريا انه يوحد دولة بفسيفساء عرقية ودينية ولغوية بات اليوم وكأن صلاحيته قد شارفت على الانتهاء .

الخلاصة:

يمكن القول ان صاعق التفجير لتركيبة الحكم في اثيوبيا المتقادمة، كان الحرب المفتوحة في التيغراي، لأنه العنوان الأبرز لبداية النهاية لمرحلة بأكملها ، احد طرفيها ركن في معادلة الحكم التاريخية لنخبة الهضبة الحبشية ، أزمة ستؤدي الى زيادة الضغوط الداخلية على ابي احمد وبرامجه الطموحة لمعالجة ارث طويل وعميق من المشاكل الداخلية بين العرقيات المختلفة وفي فترة قصيرة .

ستعلي احداث الايام والاسابيع القادمة من مكانة دعاة الحكم المركزي على حساب الفيدرالية العرقية لترجيح استمرار حلف ابي احمد مع الامهرا .وهو الحلف الذي يأمل من خلاله ، إعادة فتح الحوار الوطني الشامل بين كل المكونات ولكن من موقع الشرعية الدستورية التي يأمل بالحصول عليها من الانتخابات بصرف النظر عن مصداقيتها ونزاهتها ، فالانتخابات بالنسبة له هي المدخل الضروري لتشريع الإصلاحات الجوهرية التي يطلبها ويأمل من خلالها تلافي الخيار الأصعب وهو العودة للحكم العسكري وإعلان حالة الطوارئ .مفتاح ابي احمد لتلافي ارتداد البلاد نحو الحروب الاهلية بين القوميات ، يكمن في العودة للحوار مع ممثلي قومية التيغراي والارومو والعفو العام عن قياداتهم ، وإلغاء القرارات التي تضعهم على لائحة الإرهاب ، كل ذلك لخلق الأجواء المناسبة لحوار وطني شامل يؤسس لجمهورية اثيوبيا الجديدة .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.