إيران والخليج: المصالحة في احتمالات الانتخابات الأميركية

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ورقة سياسات

ملخص تنفيذي:

– يقوم الخلاف بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي على تناقض بنيوي عقائدي وجيوستراتيجي منذ عام 1979.
– استنفدت دول المنطقة أدوات الصراع وباتت إيران ودول الخليج بحاجة للعبور بمرحلة “إدارة الخلافات” على طريق تدجينها وإقامة توافق محتمل.
– رعت الصين في الشكل اتفاق بكين بين السعودية وإيران فيما ناقش البلدين على مدى سنوات المضمون في “حوارات بغداد”.
– تزامن التحوّل في السعيّ الخليجي لتصفير المشاكل مع إيران (وتركيا) مع إغلاق ملف الخلاف مع قطر وزيارة مستشار الامن القومي الإماراتي لطهران.
-أثبتت إيران ودول الخليج قدرة على مقاربة أزمة الحرب في غزّة من دون أي تهديد لمسار التقارب الخليجي الإيراني أو التأثير على متانة “اتفاق بكين”.
-أظهرت دول الخليج عدم ثقة بالضمانات الأمنية الأميركية وراحت إلى تنويع علاقاتها الدولية وطيّ صفحة الخلاف مع طهران.
-من المرجح ألا تؤثّر الانتخابات الرئاسية الأميركية، حتى لو فاز دونالد ترامب، على مسار التقارب بين إيران ودول الخليج.

تقديم:

شهدت العلاقة بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي تحسّناً كبيرا في السنوات الأخيرة توّجت بالاتفاق السعودي الإيراني في بكين في 10 مارس 2023. اتّسمت العلاقة قبل ذلك بالتوترّ بين إيران من جهة والسعودية والبحرين والإمارات من جهة أخرى. وبالاستقرار النسبي مع الكويت والتقارب مع قطر وعُمان. وفيما تعايشت المجموعة الخليجية مع “الاستثناء” العُماني في العلاقة مع طهران، إلا أن تقارب قطر مع طهران كان أحد أسباب المقاطعة التي فرضتها الرياض وأبو ظبي والمنامة (والقاهرة) على الدوحة (2017-2021).

الخلاف البنيوي:

تعود حساسية العلاقة بين دول الخليج وإيران إلى حدث نجاح الثورة الإيرانية بالإطاحة بنظام محمد رضا شاه بهلوي عام 1979 وقيام الجمهورية الإسلامية بقيادة روح الله الخميني. ودفعت الشعارات التي رفعها النظام الإيراني الجديد، لا سيما الوعد بأن تكون “الثورة” عابرة للحدود، لتشكيل “مجلس التعاون لدول الخليج العربية” في 25 مايو عام 1981. ووفق هذا المعطى التاريخي، فإن حيثيات علاقة دول المجلس الست كانت وما زالت تقوم على هواجس الأمن والدفاع.
يعتبر انتقال الدول الخليجية وإيران إلى طوًر جديد في العلاقة يطمح إلى التوافق والتعاون، مرحلةً غير مسبوقة منذ عام 1979. وتجاوزا لمرحلة الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) التي شهدت دعما خليجيا لبغداد، فإن انتهاء هذه الحرب لم يصوّب علاقة طهران والمنطقة، لا بل قامت سياسات كافة الأطراف على التوتر والتحدي المتبادل، بما في ذلك استخدام إيران للفصائل التابعة لها في المنطقة (بالأخصّ في العراق وسوريا ولبنان واليمن) لتهديد الخليجيين، ناهيك عن أنشطة أمنية داخلية استهدفت السعودية، والبحرين والإمارات والكويت.

تصفير الملفات:

انتقل الخطاب الخليجي العام في السنوات الخمس الأخيرة إلى التهدئة مع إيران. شمل مسار التهدئة تركيا أيضا بما كشف عن استراتيجية عامة لنزع فتائل التوتر وتصفير ملفات الخلاف. وقد ساهم توافق الخليجيين على طيّ صفحة الخلاف الداخلي مع قطر، في قمّة العلا في 5 يناير 2021، في انتهاج استراتيجية عامة لطيّ صفحات الخلافات الإقليمية الكبرى.
بالمقابل فإن سياق الخليجيين في فتح صفحة توافق مع إيران تقاطع مع سياق إيراني بهذا الاتجاه. بدأت تظهر أعراض الأمر في عهد الرئيس السابق حسن روحاني، ويات أكثر علنية ووضوحا في المواقف التي اعتمدها الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي. وسُجل في هذا الإطار دعم علني مطلق صدر عن المرشد علي خامنئي لتحسين علاقات الجمهورية الإسلامية مع دول الجوار وخصوصا مع دول مجلس التعاون الخليجي.
بالنسبة لإيران، فإن إعادة الوصل مع المنطقة العربية بات ضرورة استراتيجية تهدف إلى فكّ عزلة إقليمية والتخفيف من الضغوط الدولية التي تفاقمت بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في عام 2018 الانسحاب من “خطة العمل المشتركة الشاملة” المعروفة بالاتفاق النووي. ولطالما سوّقت طهران (بدعم من موسكو) لإقامة نظام أمني إقليمي يتكوّن من إيران ودول الخليج بغية التخفيف من نفوذ الغرب بقيادة الولايات المتحدة في المنطقة.

سياق المصالحة وصمودها:

رعت الصين اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران بعد سنوات من حوار بين البلدين في بغداد، برعاية حكومة مصطفى الكاظمي في العراق، بدأ في أبريل 2021. ورغم وصف وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، المحادثات بأنها “استكشافية”، وعدم توصّل المتحاورين إلى نتائج مثمّرة، إلا أن تمسّك الرياض وطهران بالحوار بدا خيارا نهائيا، وظهر أن إبرام “اتفاق بكين” هو ثمرة جهد مشترك في المضمون ساهمت الصين في إخراجه في الشكل. بالمقابل، قبل وبموازاة ذلك المسار، زار مستشار الأمن القومي الإماراتي الشيخ طحنون بن زايد إيران في ديسمبر 2021 واجتمع مع الرئيس إبراهيم رئيسي. أسّست الخطوة رسميا ليس لتوجّهات أبو ظبي فقط، بل للمسار الخليجي برمته في هذا الاتجاه.
ويمكن بسهولة استنتاج صلابة “اتفاق بكين” رغم ما شهدته المنطقة من زلزال جيوستراتيجي إثر عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “كتائب القسام” التابعة لحركة “حماس” في 7 اكتوبر 2023. لم يسبب الحدث انقساما بين طهران والرياض ولم يصدر عن إيران وفصائلها أي انتقادات للموقف الخليجي، السعودي أساسا، على نقيض الحملات التي شُنّت ضد الرياض من قِبل طهران وحلفائها في مناسبات سابقة، لا سيما أثناء الحرب الإسرائيلية ضد لبنان صيف عام 2006.
بالمقابل أظهرت السعودية وإيران لغة مشتركة في مقاربة الحدث، بما في ذلك حضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي القمة العربية الإسلامية الاستثنائية التي عقدت في الرياض في 11 نوفمبر 2023 لاتخاذ موقف من الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزّة.
يُسجل أيضاً أنه لم يكن لدول الخليج أي موقف سلبي من قيام الفصائل الموالية لإيران في المنطقة بعمليات عسكرية تحت عنوان “دعم غزّة”، على الرغم من إدراكها للأجندة الإيرانية من وراء ذلك. ورفضت دول المنطقة، وخصوصا السعودية والإمارات، المشاركة في “تحالف الازدهار” الذي شكّلته الولايات المتحدة لحراسة البحر الأحمر والممرات المائية بعد الهجمات التي شنّتها جماعة الحوثي الموالية لإيران على السفن التجارية تحت مسوّغ منع الملاحة صوب إسرائيل. كما لم تؤيد دول المنطقة الضربات الأميركية البريطانية ضد مواقع الحوثيين في اليمن، وحذّرت السعودية، على لسان وزير خارجيتها، من “التصعيد في المنطقة”.

العامل الأميركي: بايدن-ترامب:

مرت العلاقات الخليجية مع إيران بتجربتي السياسة الأميركية في الشرق الأوسط في عهدي الرئيس دونالد ترامب وسلفه الرئيس جو بايدن. وفيما أشارت سياسات ترامب العدائية ضد طهران والمتقدمة مع دول الخليج، لا سيما السعودية والإمارات، إلى إمكانات ترجيح كفّة الخليجيين في التوازنات الإقليمية، فإن إيران عوّلت كثيرا على سياسات بايدن والتي بدت ودودة مع طهران وعدائية ضد الخليج، لا سيما ضد السعودية. وقد ثبت لاحقا سقوط المراهنة على سياسات الإدارات الأميركية في التأثير على موازين القوى بين أطراف الصراع.
فعلى الرغم من تقدُّم علاقات الرئيس الجمهوري دونالد ترامب مع السعودية وقيام الرياض باستضافة ثلاث قمم، خليجية وعربية وإسلامية، بمناسبة زيارته للسعودية في مايو 2017، لم تتحرّك إدارة ترامب في واشنطن للدفاع عن السعودية حين تعرّضت منشآت أرامكو (في منطقتي بقيق وخريص في المنطقة الشرقية بالسعودية) في سبتمبر 2019 لقصف بصواريخ ومسيّرات مصدرها جماعة الحوثي في اليمن. وكانت تقارير أميركية لمّحت إلى احتمال أن يكون مصدر الصواريخ من العراق أو من إيران نفسها.
وتجلى تخلي الولايات المتحدة عن حماية حلفائها في الخليج في عهد الرئيس الديمقراطي جو بايدن بشكل جلي حين تخلّفت واشنطن عن القيام بأي خطوة عسكرية إثر تعرّض العاصمة الإماراتية أبو ظبي لهجمات من قبل جماعة الحوثي في يناير 2022. أثار الحدث غضب الإمارات وجاراتها الخليجية لم يخفف منه تقديم وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن اعتذارا للشيخ محمد بن زايد (وليّ عهد الإمارات آنذاك) خلال لقائهما بالمغرب في إبريل من نفس العام، على “رد فعل أميركي ضعيف وبطيء”.
بالمقابل، وعلى الرغم من وعد بايدن أثناء حملته الانتخابية بجعل السعودية دولة “منبوذة” والوعد بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران حال دخوله إلى البيت الأبيض رئيسا لبلاده، فإن طهران استنتجت أن الرئيس الديمقراطي ينفّذ تماما ما انتهجه سلفه الجمهوري لمحاصرة البرنامج النووي. وبدا أن إيران فهمت المنحى التصعيدي لـ “الدولة العميقة” الأميركية ضدها حتى قبل أن تعفي واشنطن منتصف 2023، لأسباب ما زالت غامضة، المبعوث الرئاسي إلى إيران ورئيس فريق التفاوض معها، روبرت مالي، الذي اعتبّر حين تعيينه الشخصية الممثلة للوجه الحمائمي الموعود في علاقة واشنطن وطهران.
وفق هذه المعطيات لن تؤثر نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري في 5 نوفمبر المقبل على ثوابت العلاقة الجديدة بين إيران ودول الخليج. ولئن لم تتسرّب حتى الآن الميول الرسمية لبلدان خليج وإيران باتجاه أحد المرشحين، غير أنه يُرجح أن هوية الرئيس لن تغيّر من الطبيعة الجديدة للعلاقات الخليجية الإيرانية.
وطالما أن طموحات العلاقة الجديدة تهدف إلى “إدارة الخلاف” والتعايش مع التحوّلات الإقليمية والدولية المحتملة، فإن التعامل مع ما هو معروف في سياسة بايدن مع الخليج وإيران لن يتغيّر كثيرا في التعامل مع سياسات ترامب في حال فوزه مهما اتّسمت بالغموض، خصوصا أنه لا يحتمل أن تحمل جديدا عن السياسات الأميركية التي عبّر عنها ترامب وبايدن معا حيال قضايا المنطقة.

خلاصة واستنتاجات:

**بات التقارب بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي حاجة جيواستراتيجية مشتركة بعد استنفاد كافة الأطراف لكل سبل التنابذ منذ عام 1979. وعلى الرغم من أن الانفراج في العلاقات إلا أنها لم ترقَّ إلى مستوى الاتفاق الشامل والتعاون العام، غير أن من شأن مرحلة “إدارة الخلاف” أن تتطوّر طالما أن أسباب إنهاء التوتر موضوعية وبنيوية تضع أطراف الصراع في مربع الحاجة لوقف سياقات المواجهة.
**تمكّنت دول المنطقة (إيران ودول مجلس التعاون الخليجي) مواجهة تداعيات حدث عملية “طوفان الأقصى” وكشفت عن استمرار التمسك بأبجديات الحوار والتوافق من خلال مقاربات غير متنافرة للحرب في غزّة وتجنّب اتخاذ أي طرف مواقف تتعارض مع أجندات الطرف الآخر.
**أظهرت دول الخليج عدم ثقّة بالضمانات الأمنية الكلاسيكية للولايات المتحدة، وعزماً على عدم الالتحاق بالخيارات الغربية عامة (حرب أوكرانيا مثالا) وتلك الأميركية في الشرق الأوسط (أزمة البحر الأحمر مثالا).
**الأرجح أن الانتخابات الرئاسية لن تؤثر على مسار التحوّل في العلاقات الخليجية الإيرانية. ومن المستبعد ان يكون لاحتمال فوز دونالد ترامب أي تأثير على العوامل التي دفعت كل الأطراف إلى انتهاج خيار “إدارة الخلاف” في الطريق إلى احتمال الوفاق والتعاون.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.