إيران والتفتيش الدولي: خشيّة من سيناريو ليبيا والعراق
د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات
ملخص ورقة سياسات
- ملخص تنفيذي
– تقف إيران أمام استحقاقات داهمة، أهمها حروب الشرق الأوسط، والخلاف مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والقلق من ولاية ترامب المقبلة.
– تشعر طهران بالقلق جراء عدم تجاوب دول الاتفاق النووي الغربيين مع تنازلات قدمتها لـ IAEA، وإشادة مديرها بتعاون إيران الإيجابي.
– يُظهر التصويت على قرار يدين إيران انقساما دوليا، يشبه مشهد الانقسام الذي ظهر في مواقف دول العالم من الحرب في أوكرانيا.
– تستعد إيران للرد على قرار IAEA بمزيد من إجراءات توسيع برنامجها النووي. لكن طهران تستمر مع ذلك في السعي للحوار والتفاوض.
– إدانة إيران تمهد لنقل ملف البرنامج النووي إلى مجلس الأمن، ما يعني عودة تطبيق قرارات العقوبات الأممية ضد إيران السابقة على اتفاق فيينا.
- تقديم:
استنتجت إيران أن الدفع بتصعيد غربي سياسي ضدها يستبق ما تنتظره من الولاية المقبلة للرئيس المنتخب دونالد ترامب. وعلى الرغم من مسارعة طهران إلى التحدث، منذ انتخاب مسعود بزشكيان رئيسا، بلهجة الانفتاح على الغرب، وإبداء الاستعداد للتفاوض معه، واستئناف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA، غير أن الدول الغربية الأربع الموقعة على الاتفاق نووي لم تقتنع بصدق النوايا الإيرانية المستجدة.
لم تذهب الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا مذهب التفاؤل الذي أبداه مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، بالإشادة بتعاون طهران، إثر زيارته الأخيرة للعاصمة الإيرانية. والأرجح أن حلقة جديدة من التوتّر ستبدأ، من ضمن سلسلة حلقات شهدها العالم في العقدين الأخيرين. غير أن ما يجعل من هذه المرحلة خطيرة وحرجة ومفتوحة على كافة الاحتمالات، هو أنها تجري على خلفية حروب الشرق الأوسط وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
- إيران أمام تحدّيات مستجدّة: العالم تغيّر
توقّعت إيران مبكّرا أن يكون ملفها في اجتماع مجلس المحافظين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA، في 21 نوفمبر 2024، في وضع حرج بسبب سوء علاقتها مع الوكالة، لا سيما منذ زيارة المدير العام للوكالة، رافائيل غروسي، إلى طهران في مايو 2024. وقد جرت الزيارة قبل 6 أشهر من الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، في 5 نوفمبر 2024. وكانت نتائج الزيارة سلبية، أعلن بعدها غروسي أن “إيران تمتلك القدرة على صناعة قنبلة نووية”، من دون أن يعني ذلك أن إيران اتّخذت قرارا سياسيا بصناعتها، حسب قوله.
بالمقابل يُعتقد أن النخبة الحاكمة في إيران كانت تعوّل على فوز المرشحة الديمقراطية، كامالا هاريس، كخيار يعتبر امتدادا لحكم الحزب الديمقراطي وامتدادا للتيار الذي هيمن على الحزب منذ باراك أوباما لجهة الانخراط في تعاون واتفاق مع إيران. وجاء فوز دونالد ترامب في تلك الانتخابات ليضع إيران أمام أمر واقع جديد في واشنطن.
يضاف هذا الحدث إلى توتّر علاقة طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ليدفعا طهران إلى المبادرة بإزالة مجموعة من الألغام السياسية والاستعداد لمقاربة الحقائق الجيوسياسية الجديدة. ووفق هذه المعطيّات، استجابت لطلبات قدمها غروسي لزيارة طهران، ووجهت له فجأة دعوة لزيارة إيران لحلّ الخلافات العالقة.
- الخلاف مع IAEA: شبهة برنامج سريّ
وصف غروسي نتائج اجتماعاته بالمسؤولين الإيرانيين بأنها إيجابية، وأشاد بالتعاون الذي أبدته إيران، لا سيما في الاستجابة لمقترحه بوقف تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة، والسماح لعدد من المفتشين بالقيام بمهام كانت ترفض طهران السماح بها. وقال الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، أثناء لقا معه بأنه يجب إزالة “الشكوى والغموض” عن البرنامج النووي الإيراني.
ويدور الخلاف بين طهران والوكالة، وبالتالي بين طهران والدول الغربية، حول مجموعة من النقاط الغامضة التي ساهمت سلوكيات إيران في زيادة الشبهة بها. وأهم نقاط الخلاف هي:
1-رفض إيران إعطاء تفسيرات لوجود جزئيات لليورانيوم في منشأتين غير معلنتين.
2-رفض إيران إعطاء تفسير لوجود آثار تخصيب لليورانيوم بنسبة 87.6 بالمئة في منشأة فوردو. علما أن إنتاج قنبلة نووية يحتاج إلى تخصيب بنسبة 90 بالمئة، ناهيك من أن الاتفاق المعطّل يلزم إيران بنسبة تخصيب لا تتعدى 3.67 بالمئة.
3-منعت إيران دخول مفتشين تابعين للوكالة لتفقد المنشآت النووية.
4-أزالت إيران كاميرات مراقبة تابعة للوكالة من داخل منشآت نووية يُفترض أنها خاضعة للمراقبة وفق اتفاقات السابقة.
تشكّ الوكالة الدولية بأن لإيران برنامجا نوويا سريا لا تعرفه، وليس مدرجا داخل معطيات البرنامج النووي الإيراني المبرّم في فيينا عام 2015، أو حتى من ضمن التزامات الشفافية التي تتطلبها عضوية إيران في “معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية” NPT. تستند الوكالة في شكوكها على عدم توفير طهران تفسيرا للأدلة المشبوهة، إضافة إلى عدم التعاون لجعل الأنشطة النووية الإيرانية شفافة، ما يؤشّر إلى وجود شبهة بأن للبرنامج النووي أغراضا عسكرية.
- قرار إدانة إيران: انقسام دولي
عوّلت طهران على زيارة غروسي الأخيرة، في 14 نوفمبر ، وما رافقها من تقدّم إيجابي، لتجنّب قرار سلبي لمجلس محافظي الوكالة. ووعدت طهران بوقف عمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 بالمئة، شرط عدم اتخاذ المجلس قرارا سلبيا ضدها. وتواصل وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، مع عدد من وزراء خارجية الدول الأعضاء في مجلس الوكالة لحضّها على عدم دعم القرار الذي تقدمت به ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بدعم كامل من الولايات المتحدة في 19 نوفمبر 2024.
غير أن مجلس المحافظين صادق على قرار ينتقد عدم تعاون إيران مع الوكالة، ويطلب من الوكالة إعداد تقرير لتقييم شامل للأنشطة النووية الإيرانية على أن يكون جاهزا في ربيع 2025. لكن اللافت أن خريطة تصويت الدول الأعضاء (35 عضوا) أظهرت من جديدا انقساما دوليا وتغيرا في خطوط الاصطفافات الدولية، يشبه انقسام دول العالم بشأن الموقف من حرب أوكرانيا المندلعة منذ 24 فبراير 2022. وأتت خريطة هذا التصويت فق المشهد التالي:
1-حظي القرار بدعم 19 دولة هي: الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، إسبانيا، الأرجنتين، أستراليا، بلجيكا، الإكوادور، أوكرانيا، كندا، جورجيا، اليابان، كوريا الجنوبية، المغرب، إيطاليا، لوكسمبورج، هولندا، باراجواي.
2-عارض القرار كل من روسيا والصين وبوركينا فاسو.
3-امتنعت عن التصويت 12 دولة هي جنوب إفريقيا، الهند، باكستان، إندونيسيا، البرازيل، غانا، تايلاند، الجزائر، أرمينيا، بنغلاديش، كولومبيا، مصر.
ويعبر مشهد التصويت عن المزاج السياسي الذي يتباين بين مجموعات من الدول بشأن قضايا العالم، والموقف من الاستقطاب الغربي، كما الموقف من إيران نفسها.
يظهر هذا الانقسام في السمات التالية:
أ-تتشارك دول المجموعة التي أيدت القرار في القلق من برنامج إيران النووي، وتلتقي مع الدول الغربية في ضرورة اتّخاذ مزيد من القيود والإجراءات الصارمة لمراقبة الأنشطة النووية الإيرانية. كما أن بعض هذه الدول، ومن بينها المغرب، أيدت القرار أيضا بسبب سوء العلاقة مع طهران. فبين الرباط وطهران، مثلا، قطيعة لأسباب متعدّدة، من بينها اتهام المغرب لإيران بدعم جبهة البوليساريو. وقد أجرت طهران مؤخرا تواصلا مع المغرب عبر مبعوث إيراني زار الرباط، لبحث إمكانات تطبيع العلاقات بين البلدين.
ب-تعبّر دول المجموعة التي امتنعت عن التصويت، من جديد، على منوال موقف كثير من الدول بشأن حرب أوكرانيا، عن التالي:
1-عدم الاصطفاف الآلي مع الموقف الغربي، من دون أن يعني ذلك انحيازا للطرف الآخر.
2-عدم انخراطها في تسهيل تورّط الوكالة في أدوار لصالح حسابات سياسية دولية.
3-عدم ثقتها بالمنظمات الأممية، وعدم الإيمان بنزاهتها وحيادها عن الأجندات الدولية الكبرى.
ج-تعبّر روسيا والصين في رفضها للقرار عن تقاطع مصالحهما مع إيران لأسباب تتعلّق بالموقف من الغرب من جهة، وبالاتفاقات السياسية والاقتصادية التي تجمع بكين وموسكو بطهران، فيما يعبّر موقف جنوب أفريقيا عن مسافة تتخذها من الغرب متضامنة مع عضو في تجمع “بريكس”.
- ماذا بعد قرار محافظي الـ IAEA؟
وفق العدّ الحسابي، فإن 15 دولة عضو من أصل 35 في مجلس المحافظين لم تدعم القرار الذي مُرّر بتصويت 19 دولة عضو فقط. وهذا يعني أن إيران تشعر بتمتعها بهامش مناورة، وبيئة دولية غير حاضنة للتصعيد ضدها، وأن بإمكانها التعويل على مزاج دولي قد يكون معاندا للحوافز السياسية التي تقلق طهران.
وفيما اعتبرت طهران أن القرار مسيّس لم يأخذ بالاعتبار أجواء التعاون الإيجابية التي عبر عنها غروسي، فإن مراقبين يعتقدون أن إيران استنتجت قرارا وتحوّلا سياسيين في التعامل مع ملفها النووي، وأن ذلك يمكن أن يمهد لتعبيد الطريق أمام سلسلة تطوّرات وإجراءات تصعيدية مقلقة.
يُنظر إلى صدور قرار ينتقد إيران ويطالب بتقييم أممي شامل لأنشطتها النووية، بأنه ممهد لقرار آخر قد يصدر بعد صدور تقرير التقييم، في ربيع عام 2025، بإعادة نقل ملف البرنامج النووي إلى مجلس الأمن. ويعني ذلك العودة إلى ما كان عليه الوضع داخل المنظمة الدولية، قبل التوصل إلى “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وهي الاسم الرسمي للاتفاق النووي بين إيران ومجموعة دول الـ 5+1 (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، روسيا، الصين) لعام 2015.
وكان الاتفاق قد نصّ على تفعيل “آلية الزناد” Snapback في حال انتهاك إيران للاتفاق، بما يعني إعادة تفعيل كافة قرارات العقوبات التي كان اتّخذها مجلس الأمن قبل الاتفاق، على أن يُعاد العمل بها من دون الحاجة إلى مصادقة جديدة في مجلس الأمن.
ورغم أن إيران ممكن أن تستخدم حجّة التسييس للدفاع عن موقفها لدى الرأي العام الداخلي كما لدى المجتمع الدولي، غير أن عامل التسييس نفسه يقلق إيران لما يمكن أن يُعدّه من قرارات تصعيدية، قد تأخذ أبعادا عسكرية في ظل ضغوط حكومة بنيامين نتنياهو في إسرائيل لضرب البرنامج النووي الإيراني.
ورغم تغير كبير في الظروف الدولية واصطفافات المشهد الدولي، لا يسقط المراقبون من الذاكرة الأدوار التي لعبها المفتشون الدوليون في توفير مناخات لاحقا بشنّ حرب ضد العراق عام 2003 وضد ليبيا عام 2011. وتأخذ طهران هذه السوابق على محمل الجد لحسن إدارة التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من بوابة إظهار التعاون والشفافية الفنية لبرنامجها، والحذر من الأفخاخ السياسية من وراء قرارات الوكالة ومقاصدها.
يُضاف إلى الأجواء السياسية الضاغطة التي صدرت من الـ IAEA، فإن طهران تتوجّس مما يمكن أن تحمله ولاية ترامب في البيت الأبيض، ابتداء من 20 يناير 2025 من ضغوط إضافية ما زالت غامضة، حاولت استطلاعها في اللقاء الذي جمع مؤخرا السفير الإيراني في الأمم المتحدة، أمير سعيد إيرواني، بالملياردير الأميركي، إلون ماسك، عضو إدارة ترامب المقبلة.
تردّ إيران على قرار مجلس محافظي الـ IAEA بقرار لرفع معدلات تخصيب اليورانيوم من خلال تركيب آلاف من أجهزة الطرد المركزي المتطوّرة لجعل البرنامج النووي “أكثر شمولا”، وفق مصادر رسمية إيرانية. في الوقت عينه يصدر عن علي لاريجاني، كبير مستشاري المرشد، علي خامنئي، تصريحات تعبّر عن استعداد إيران للتفاوض سواء للعودة إلى اتفاق فيينا أم التوصل إلى اتفاق جديد. وعلى وقع هذا التوتّر يُعلن، نقلا عن مصدر إيراني، عن عقد محادثات في 29 نوفمبر 2024 في جنيف، تجمع إيران مع بريطانيا وفرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي “لبحث الموضوعات الثنائية والاقليمية والدولية”.
- خلاصة واستنتاجات
**تعبّر إدانة مجلس المحافظين لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيران، عن تطوّر سلبي يمهّد لإحالة ملف البرنامج النووي الإيراني إلى مجلس الأمن.
**من شأن تفعيل “آلية الزناد” إعادة تفعيل كافة قرارات الحظر والعقوبات الصادرة عن مجلس الأمن، على نحو تصبح فيه العقوبات دولية شاملة.
**تخشى إيران من أن يكون التصعيد من خلال الوكالة تمهيدا لتصعيد دراماتيكي، قد يأخذ أشكالا عسكرية، في ظل حروب إسرائيل، وعشية استلام ترامب لمنصبه
**يعبّر التصويت داخل مجلس المحافظين عن انقسام دولي يحرم الغرب من أغلبية دولية وازنة في أي خطط ضد إيران.
**رغم الردّ التصعيدي لإيران ضد قرار مجلس محافظي الوكالة، تستمر طهران في بعث رسائل الانفتاح والتعاون، والاستعداد للتفاوض، للعودة إلى الاتفاق القديم أو التوصل إلى اتفاق جديد.
**رغم تبدّل الظروف الدولية، تخشى إيران نموذجي ليبيا والعراق، حين وفّرت أنشطة المفتشين الدوليين بيئة لشنّ حرب ضد البلدين.