إسرائيل والازمة السودانية
الثابت في معادلة النفوذ، حصار مصر
تقدير موقف: مركز تقدم للسياسات
تقديم:
وفقا للتقديرات الاسرائيلية فإن تفجّر الاوضاع في السودان أرجأ الاعلان عن علاقات دبلوماسية و”اتفاقية سلام بن البلدين”. وبحسب المصادر الإسرائيلية، قام ايلي كوهين وزير الخارجية الاسرائيلي بزيارة سرية الى السودان التقى فيها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان، اواخر كانون ثان/يناير الماضي، وبعد أقل من شهر، توقعت معظم وسائل الاعلام الإسرائيلية قرب توقيع اتفاقية تطبيع بين السودان واسرائيل وتبادل السفراء.
يُعتبر مدير عام الوزارة رونين ليفي والملقب ب “ماعوز” من أكثر الشخصيات المقربة من القيادات السودانية، وكان هذا عاملا حاسما في تعيينه. وقد عمل ليفي في اجهزة الاستخبارات والأمن ومجلس الامن القومي لثلاثة عقود، وبرز دوره الخاص في العلاقات المتينة مع الانظمة التي لم تكن لها علاقات رسمية مع اسرائيل وله اسهام كبير في التوصل الى ما سمي بالاتفاقات الإبراهيمية.
معلوم انه كان لإسرائيل دور كبير في انقسام السودان وكانت من اولى الدول التي اعترفت بدولة جنوب السودان وأقامت علاقات دبلوماسية معها، وتمتعت بعلاقة امنية قوية مع معظم الاطراف الحاكمة في الخرطوم وفي جوبا.
التحليل:
على الرغم من ان الادبيات الإسرائيلية تكثر من الحديث عن الدبلوماسية الناعمة والتعاون المدني، الا ان المركّب الامني هو الأكثر تميزا في علاقات اسرائيل مع افريقيا، والرغم من ان دول القارة ليست من أكبر المستوردين للسلاح الاسرائيلي، الا ان العلاقة الأمنية باتت المحرك الأساس للعلاقات الاقتصادية والمالية والمدنية على تنوعها وذلك بخلاف الامور قبل عقدين. كما وباتت المؤسسة الامنية وحصريا الموساد ومجلس الامن القومي هي الفاعل في العلاقات مع دول افريقيا وهذا ينطبق تماما على السودان، وبات دور الاجهزة الامنية سابقاً على دور وزارة الخارجية.
عملت اسرائيل بحسب المصادر الرسمية في مسارين للتوسط بين الاطراف السودانية المتصارعة، المسار العلني الرسمي قاده وزير الخارجية ومدير مكتبه، والمسار الثاني السري قام به الموساد، وكانت اتصالات مباشرة مع كل من البرهان وحميدتي، تمت فيها الدعوة للجانبين لوقف التصعيد، وعرضت اسرائيل وساطتها بين الطرفين السودانيين.
وبحسب المصادر التي تدعي، ان علاقات اسرائيل بالسودان يديرها كل من وزارة الخارجية المسؤولة عن الملف مع البرهان، بينما الموساد مسؤول عن العلاقات مع حميدتي قائد قوات الدعم السريع، في حين ان “ماعوز” يتمتع بعلاقة قريبة مع الطرفين. وتشير كتابات في مركز الامن القومي الإسرائيلي ان البرهان كان منزعجا من العلاقة الجانبية مع نائبه في مجلس السيادة.
منذ مطلع العام وبشكل خاص قبل اندلاع المعارك في السودان بفترة وجيزة راقب الموساد ووزارة الخارجية المحادثات والمفاوضات السودانية للتوافق بشأن حكومة مدنية، بينما أبلغ ايلي ليفي البرهان ” بأن عدم التوصل الى حكومة مدنية يشكل عائقا امام التوصل لاتفاقية سلام بين الدولتين” . الا ان هذا الموقف، لم يكن حقيقيا وانما كان فيما يبدو غزلا مع التيارات المدنية، لا بل ان إسرائيل تخوّفت كما يشير الاعلام العبري من موقف ادارة بايدن التي اشترطت التوافق سودانياً على حكومة مدنية كي تدعم اتفاقية سلام سودانية اسرائيلية بما لا يتعارض مع القانون الامريكي ، وفرضت عقوبات على الجناح العسكري في الحكم في السودان إثر الانقلاب الاخير في أكتوبر الماضي على الحكومة المدنية ، واستئثار العسكر على الحكم بقيادة البرهان. جاء انفجار المعارك في السودان، ليسقط على الاقل في الفترة الحالية الفرصة الاسرائيلية الفريدة للتطبيع مع الخرطوم.
يشبّه المعلقون الاسرائيليون مبادرة بلادهم للوساطة في السودان بالوساطة التي اقترحها رئيس الحكومة الاسبق نفتالي بينيت في حينه على روسيا وأوكرانيا، وذلك للتهرب من اصدار موقف واضح من الحرب، وفي اشارة الى خطوات اسرائيلية رسمية أكبر من قدرات اسرائيل على لعبها. ففي العقدين الماضيين سعت اسرائيل الى اعتماد نمط الدول العظمى بالسعي للتعاطي مع كل الاطراف المتصارعة في الدول الافريقية ولغايات السيطرة وتعزيز النفوذ، الا انها كما يبدو لن تحصد سوى الفشل نظرا لكثرة اللاعبين العالميين ذوي المصالح الحيوية، مثل مصر والولايات المتحدة والصين وحتى السعودية والامارات. ولذلك فإن “دبلوماسية الوساطة” بين من تعتبرهم اصدقاءها في السودان لا يمكن ان تكون هي العنوان لاي من الأطراف المتصارعة او التي تقف الان على الحياد. تؤكد ذلك حقيقة الوزن الكبير للمبادرة الامريكية والسعودية للتسوية. ولهذا لم يكن امام اسرائيل سوى التخلي عن كل الأقنعة والعمل من البوابة التشادية للتدخل، لصالح قيادة الجيش السوداني، ضمانا لمصالحها في الحفاظ على المنجز الاولي بالاتفاق على استمرار الاتفاقات التي أنجزت في العاصمة الأوغندية بين البرهان ونتنياهو.
الخلاصة:
مهما كانت نتائج المعركة الحالية في الخرطوم، فان النفوذ الاسرائيلي في السودان والسعي الى تطبيع العلاقات تعرض لانتكاسة، سواء عاد الإسلاميون والنظام القديم للسلطة او انتصرت القوى المدنية، وحققت مطلبها بإخراج الجيش من الحياة السياسية ومن المرحلة الانتقالية.
من الاهمية بمكان القول، ان الدور الاسرائيلي في السودان منذ خمسينات القرن الماضي، كان أحد اهم اهدافه محاصرة مصر وتطويقها واشغالها بما يستنزفها ويضعفها، ولا تزال الاستراتيجية الإسرائيلية حتى يومنا هذا ترى اهمية ارباك الدور المصري في السودان، ومن المتوخى والمنتظر ان تدرك مصر هذا الدور وهذه الاستراتيجية الدائمة وأن تأخذه بالحسبان في تحديد اولويات تعاطيها مع الصراع السوداني.
انهاء الصراع بين طرفي المؤسسة العسكرية في السودان بطرق توافقية هو مصلحة مصرية خالصة بقدر ما هو مصلحة عليا لكل أطياف الشعب السوداني، كما ان مصلحة الامن القومي المصري تكمن في تشكيل حكومة مدنية توافقية بين معظم القوى السياسية والشعبية والاثنية تقود المرحلة القادمة بنجاح. لا مصلحة قومية سودانية ولا إقليمية في الابقاء على المعادلة الخطرة بخيار وحيد بين هذا الطرف العسكري او ذاك، بل ان ضغوط كل الحريصين على مصلحة شعب السودان، يجب ان تتوجه نحو وقف الحرب واجبار الطرفين المتصارعين على الجلوس للتفاوض، فقد انجز الكثير من الوثائق والاتفاقات والتوافقات، بما يكفي لإخراج العسكريين من لعبة السياسة والسلطة، وتمكين المدنيين من تشكيل حكومة مدنية كفاءات مؤقتة، مهمتها المركزية، إعداد المناخات اللازمة لانتخابات رئاسية وتشريعية وإقرار دستور دائم للبلاد .
تعترف القراءات الاسرائيلية بقصور دور حكومتهم في السودان، وهذا يشكل فرصة امام الشعب السوداني الرافض للتطبيع والاهانة، لتحرير نفسه وبلاده من الرهان على الدور الإسرائيلي تحديدا والخارجي عموما.