إريتريا والعداء المستمر لقومية التيغراي واثيوبيا :

ملخص ورقة سياسات، وحدة الشؤون الأفريقية، مركز تقدم للسياسات 
 
في المشهد السياسي المعقد في القرن الإفريقي، تمثل نهج النظام الإريتري في بناء الأمة مبدأً واحدًا وقاسيًا: ازدهار القومية الإريترية يتطلب إضعاف قومية تيغراي—وبالتالي، جبهة تحرير شعب تيغراي (TPLF)، والعمل الدائم على إخراجها من الوجود السياسي الإقليمي. هذه السياسة، ظلت الناظم الأساس لاستراتيجيات إريتريا السياسية والأمنية الداخلية والخارجية، وهي التجسيد الحقيقي للتناقض الكامن في السعي وراء القوة والاستئثار بالسلطة. على الرغم من أن تيغراي هي منطقة داخل إثيوبيا، فإن التركيز الهوسي للنظام على تقويض هذه القومية التي تشاركه حاضنته الاجتماعية والاثنية، يكشف عن ذلك  مرارًا، الفظائع الممارسة ضد اثنيته والتجنيد العسكري غير المحدود، بينما ينكر في الوقت نفسه الحقوق الديمقراطية الأساسية لكل الارتريين، بما في ذلك غياب الدستور والانتخابات الحرة.
 
الاستفسارات الموجهة إلى كبار المسؤولين الارتريين بشأن غياب الدستور، وطبيعة الخدمة العسكرية غير المحدودة، أو الهجرة المستمرة للمواطنين، تؤدي بشكل غير مفاجئ إلى نفس الرد: انه الخطر الدائم من “وياني” الاسم المختصر للجبهة الشعبية لتحرير تيغراي —وهو مصطلح أصبح يستخدم كصك اتهام لكل المظالم ضد تيغراي. حتى عمدة أسمرة، عندما سُئل عن القيود على تجديد المنازل، يكرر نفس الاتهام. الرئيس، الذي ظل في السلطة لعقود منذ الاستقلال، يبرر استمراره في الحكم من خلال الإشارة إلى التهديد المزعوم الذي تشكله جبهة تحرير شعب تيغراي. هذا الالتزام الأيديولوجي يتجاوز مجرد إضعاف تيغراي؛ إنه يهدف إلى إضعاف تأثيرها. وبناءً عليه، فإن كامل إريتريا، مواردها، سكانها، وآفاقها تطورها، ظلت محتجزة، ومطلوب من الامة الارترية ان تظل محتجزة لهذه الاوهام السامة.
 
‎ قدم شعب تيغراي وجبهة تحرير شعب تيغراي إشارات للمصالحة تجاه جبهة تحرير الشعب الإريتري، فقد اسهم قادتها وعلى راسهم رئيس الوزراء الاثيوبي الراحل ميلس زيناوي في نجاح الاستفتاء الذي ادي الي ولادة الدولة الارترية بالرغم من التجييش والحشد الداخلي في اثيوبيا ضد استقلال ارتريا عن البلاد. لكن هذا الموقف لم يجد نفعا مع نظام أساس افورقي، ولم يقلل من حالة العداء المتأصل لقومية التغراي، باعتبارها تهديدا وجوديا لنظام حكمه.
 
‎ في عام 2021، اندلع الصراع بين جبهة تحرير شعب تيغراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية، لم يتأخر النظام الإريتري في إطلاق حملة وصفت بالانتقامية. تحت شعار حماية هويته الوطنية، وقالت المصادر الدولية، ان قوات الحكومة الإريترية قامت بتدمير غير مبرر للبنية التحتية الزراعية، وهدم مرافق المياه والطرق، وتدمير المجمعات السكنية، وحتى تفكيك مراكز الرعاية الصحية في تيغراي وهو أسلوب حرب يتجاوز العمل العسكري التقليدي ويقترب مما يوصف بالإبادة العرقية المنهجية.
 
‎تصاعد التوتر بشكل كبير بعد اتفاق بريتوريا لعام 2023 والذي كان يهدف إلى وقف الحرب بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي. ومع ذلك، بدلاً من الترحيب بسلام طال انتظاره، أشعل الاتفاق غضبًا شديدًا في النظام الإريتري. اعتبرت اسمرا التوقيع على هذا الاتفاق إهانة. فالاتفاق يعني أنجبهة تحرير تيغراي لم تهزم بالكامل، وأن مهمتهم التاريخية للقضاء على التيغراي ما زالت غير مكتملة. وبسبب غضبها مما اعتبرته عملية سلام مبكرة سارعت الحكومة الإريترية إلى تصعيد التوتر وخطاب العداء تجاه إثيوبيا، وأصرت على أن الامن الحقيقي والنظام الإقليمي لا يمكن تحقيقه الا بالقضاء على تهديد تيغراي وتعبيرها السياسي بالكامل.
 
من أكثر الجوانب إرباكًا هو تحول النظام مؤخرًا إلى موقف يبدي فيه اهتماما بقومية التيغراي، مباشرة بعد توقيع اتفاق السلام في بريتوريا بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي، لم تتمكن القيادة الإريترية من كبح غضبها. فالدولة التي ناصبت العداء لهذه الاثنية الشريكة في الجغرافيا والديمغرافيا، ودمرت جسور التفاهم والتعاون معها طيلة العقود الماضية، تحاول تقديم نفسها كوسيط. المفارقة هنا قاسية: بينما تظل السياسة المركزية لإريتريا تعادي شعب تيغراي وهويته، فإن قادتها الآن يتظاهرون بالتعاطف، في محاولة واضحة للتأثير في المستقبل السياسي لتيغراي وبالتالي مستقبل إثيوبيا. 
 
‎وتتهم مصادر مقربة من جبهة تحرير تيغراي أسياس افورقي، بخطوات عدوانية جديدة تتمثل بالعمل على تجنيد عناصر من داخل جبهة تحرير تيغراي نفسها لتكون أدوات في خدمة مشروعه الخاص، وإثارة الحروب والنعرات الداخلية. وتضيف المصادر ان ذلك يتناقض مع وضع اسمره لنفسها في موقع الوسيط المحايد، وهو الامر الذي يناقض مشروعه الذي يردده دائما حول الهوية الوطنية الارترية، في وقت يؤجج فيها الصراعات البينية لإثنية تعيش على جانبي الحدود.

 نظرة إلى المستقبل: 
 
ان استمرار هذه السياسة تجاه التيغراي والتي باتت من ثوابت الدولة الارترية بصورة مستمرة ولعقود، تطرح أسئلة جوهرية حول الدول التي تبني ثوابتها السياسية على أساس الكراهية المتاصلة ولا مكان فيها للمصالح والتاريخ المشترك والثقافي والحضاري وهو المسار الذي يشوه وسمم المنطقة بأكملها وعلاقاتها البينية. وهو الامر الذي يضع العديد من الدوائر الاكاديمية التي تتابع منطقة القرن الافريقي، يطرحون أسئلة الاستغراب والدهشة، من استمرار نظام اسمره في إلقاء اللوم على تيغراي والجوار الاثيوبي بشكل مستمر لتبرير الخراب السياسي والاقتصادي واستمرار النظام التسلطي، وبالتالي تجنب تحمل المسؤولية او التوقف لمراجعة السياسات التي لم تتغير منذ الاستقلال الى اليوم، وهي السياسات التي تجعل السلام الداخلي وفي المنطقة حلما بعيد المنال.
 
وفي ضوء التحولات في البيئة الدولية والإقليمية وتصدع النظام الدولي الذي بني بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تضع كل دول الاقليم امام تحديات حقيقية، لا حل لها سوى تعزيز افاق التعاون المشترك والإقليمي، فان الضرورات الوجودية تحتم مراجعة ارث العلاقات المتوترة بين أثيوبيا وارتريا والذي ظل يقوم على المعادلة الصفرية. لقد حان الوقت لتحدي السردية التي تضع الهوية العرقية ضد حقوق الإنسان، ولرفض السياسة القائمة على العنف كبديل للحكم الديمقراطي، وان يحل مبدأ المصالحة محل الانتقام والمصلحة محل التنافس الضار. والبداية في هذا المسار هو ان إصرار القيادة الإريترية على العداء لإثنية التيغراي والذي كلف الآلاف الضحايا والخراب واستهلاك الموارد، لم يعد مجديا للنظام الارتري ذاته ولا للسلم والاستقرار في المنطقة.
 
في هذا السياق من المفيد التذكير بان فكرة التعاون والمصالحة في اطار فيدرالي أو كونفدرالي ‎ليست بعيدة عن اقتراحات تتوخى الإجابة على واقع الازمة المستمرة للنظام الارتري والذي خلفت سياساته تدميرا ممنهجا لمقدرات البلاد وهجرة اكثر من ثلث السكان خارج البلاد وانعدام الامل بالمستقبل السلمي والطبيعي لإرتريا . فقد نشرت وثائق منسوبة للرئيس اسياس افورقي عندما كان امينا عام للجبهة الشعبية، حول حرصه على مستقبل اثيوبيا الواحدة الموحدة ، وقلقه من  نهج  الفيدارالية الاثنية على وحدتها، بل وطلبه الصريح من قادة الجبهة الشعبية الموافقة على فكرة البقاء في الكيان الأثيوبي الفدرالي وهو ما ذكره وزير دفاعه السابق السيد مسفن حقوص، كما تكشف الوثائق عن تصريحات لمسؤولين في حكومة الدرق الاثيوبي عن موافقة افورقي على نظام فيدرالي يربط ارتريا بأثيوبيا، وهو امر تبنته حينها دول اقليمية ورفضه الرئيس الاثيوبي منغستو هيلامريام وذلك في العام 1985. هذا الرفض الذي حال دون تحقيق طموح افورقي لحكم اثيوبيا كلها، وتقول بعض القراءات، ان ذلك هو السبب الذي دفع الى خيار الحرب والكفاح المسلح ضد أثيوبيا من اجل تقرير المصير والاستقلال، وهو الامر الذي لم يكن للتيغراي علاقة لها بذلك وليس هناك من مبرر لاستمرار حالة العداء للتيغراي.

وتقول بعض القراءت ان خيار الحرب ضد اثيوبيا بافتعال ازمات حدودية هو الرد الذي لجاء اليه الرئيس الارتري بعد ان نجح زعماء التيغراي في الاستئثار بالحكم  وابعاد اي دور لحاكم ارتريا الجديد في  اثيوييا، وهو والذي كان ينظر اليهم بدونية مصدرها النضج والوعي السياسي المبكر التي تميز بها وكذا البيئة المدنية التي نشاء فيها في ارتريا؛ مقارنة بحياة الفقر والبداوة التي عاشها اقرانه في الجانبين؛
 
الخلاصة 
** ان استمرار العداء لشعب تيغراي والتوتر الدائم مع الجارة اثيوبيا ، استنفذ اغراضه في السعي لتثبيت دعائم النظام الارتري من خلال إعادة انتاج العدو الخارجي  واعتباره تهديدا وجوديا يجري استدعاء خطابه كلما تصاعدت الازمة السياسية والاقتصادية وفشل سياسة المحاور المتبدلة والتدخل في شؤون الدول المجاورة. 
** بات على النخبة الإريترية في الداخل والخارج ان تدرك خطورة استمرار هذا المسار العدواني تجاه الجوار الذي يسلكه النظام، وهو مسار لا يهدد استقرار المنطقة وحسب، بل يهدد أيضًا مستقبل إريتريا.
 ** في ضوء التحولات العالمية والإقليمية المتسارعة ، بات واضحا للعديد من أوساط النخب الافريقية ، انه لا يمكن بناء سلام حقيقي ودائم إلا من خلال مصالحة حقيقية تقوم على قواسم المصالح المشتركة ، واحترام حقوق الإنسان، ورفض حازم لسياسات الكراهية العرقية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.