إحياء اتفاقية أضنة: الأكراد والمعارضة المسلحة أكبر الخاسرين
مركز تقدم للسياسات
لاتزال انعكاسات القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا تلقي بظلالها على المشهد السوري في شرق الفرات، مع استمرار الغموض حول مستقبل الترتيبات الروسية التركية، وتباين الرؤى حول تفسيرات اتفاقات سوتشي والاستانةالخاصة بتلك المنطقة. فبعد أيام قليلة من اثارة الرئيس الروسي قضية إعادة احياء اتفاقية أضنة بين الجانبين السوري والتركي في العام 1998، حصل الجانب التركي من الامريكي على تفاهم مبدئي، حول المنطقة العازلة في المنطقة الشرقية من سوريا، بعمق يصل في بعض المناطق الى ثلاثين كلم على طول نحو 450كلم، دون اتفاق نهائي، وهو خيار تفضله أنقرة على التفسير الروسي لاتفاق أضنة التي يعطي التركي حرية العمل داخل الاراضي السورية لعمق يصل من خمسة الى سبعة كلم، لمطاردة مقاتلي حزب العمال الكردي الانفصالي. الرد الرسمي السوري، وضع انقرة في موقف حرج، وفتح الباب لمناقشة مستقبل مدينة ادلب التي يتحكم بها اليوم هيئة تحرير الشام، النصرة سابقا والمصنف ارهابيا من قبل كل الاطراف الدولية والاقليمية، دمشق أعلنت انها ملتزمة بالاتفاقية، لكنها اتهمت أنقرة بخرقها منذ العام 2011 واشترطت لإعادة احيائها بأن تتوقف تركيا عما أسمته دعم الإرهاب في سوريا، وطالبت بسحب جنودها من شمال غرب البلاد. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بدا في موقف صعب، فهو من جهة، يفضل التفاهمات مع الروسي الذي يقدم فهما واضحا لمستقبل سوريا بما يمنع قيام كيان كردي في الشمال السوري بصورة قاطعة، وهو ما ينسجم مع الطروحات التركية الخاصة بوحدة الأراضي والسيادة السورية، لكنه يستغل تواجده العسكري تماما مثل كل القوات الاجنبية المتواجدة على الاراضي السورية ليكون له النفوذ والكلمة في الحل النهائي ولمرحلة الانتقال السياسي في البلاد. ولهذا فهو يفضل استمرار المناورة وكسب الوقت، حتى تنتهي مفاوضاته مع الجانب الأمريكي، الذي يشترط عدم المساس بالقوات الكردية (قوات سوريا الديمقراطية وعصبها الرئيس الحزب الديمقراطي الكردي حليف حزب العمال الكردستاني التركي الانفصالي) . لكن حبل المناورة التركية بات قصيرا، فموسكو اعادت فتح الجداول الزمنية الخاصة باتفاقيات الأستانه الخاصة بالالتزامات التركية تجاه الطرق الدولية بين دمشق وكل المدن السورية وصولا الى المعابر على الحدود التركية، وانهاء المنظمة الارهابية الأبرز، هيئة تحرير الشام، التي تمكنت في الشهر الماضي من احكام سيطرتها على الشمال الغربي السوري. وفيما يبدو ان واشنطن لا تستعجل البت في مستقبل تواجدها وادواتها الكردية في سوريا، الى حين الانتهاء من تشكيل حلفها الإقليمي المعادي لإيران في الشرق الأوسط وذلك في الثاني عشر من الشهر القادم في العاصمة البولندية وارسو، تبدو موسكو في عجلة من أمرها، وعبرت عن ضيقها من التلكؤ التركي في تنفيذ الاتفاق الخاص بإدلب ومنظمات الإرهاب، وتستعجل تطبيعا إقليميا مع النظام السوري، بحجة إعادة الاعمار وتهيئة الظروف للعبور لمرحلة الحل الانتقالي، حتى قبل الانتهاء من مسودة الدستور.
اتفاقية اضنة: التباين
ومما يزيد الارتباك التركي، أن التفسير الروسي لاتفاقية أضنة، وشرعنتها للتدخل التركي المحدود في شرق الفرات، مرهون بالتزام تركيا تنفيذ الاتفاقات الاخرى، وبخاصة محافظة ادلب، واعادتها وفق جدول زمني للسيادة السورية، وإذا كانت موسكو تعتبر الوجود التركي في ادلب شرعيا، لكن ذلك يشترط انهاء وجود الفصائل الارهابية. وبقراءة مدققة في مضمون اتفاقية أضنة للعام 1998، في ملحقها الرابع: فإن التدخل التركي في سوريا مشروط بعدم التزام الطرف السوري بالتزاماته بملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني، وأي تفعيل للاتفاقية سيعني اعادة الاتصالات بين النظام السوري وتركيا والتي قطعت منذ 2011، وترجح بعض التحليلات أن بوتين بإشارته الواضحة إلى هذه الاتفاقية في لقائه مع أردوغان مطلع يناير \ك 1 ، يحاول كسب تطبيع العلاقات التركية مجددا مع النظام السوري، بما في ذلك التنسيق الأمني بين الطرفين وإعادة احياء الخط الساخن الذي تم انشاؤه بموجب الاتفاقية. من المرجح، أن موسكو تسعى لترتيب اتفاق تنسيق عملياتي وميداني بين الجانبين التركي والروسي في المرحلة الاولى، تشمل المنطقة الحدودية برمتها؛ بما يؤمن المنطقة وعدم عودة الأحزاب الكردية المعادية لتركيا ومحاربة جيوب الارهاب. والخطوة اللاحقة ادخال إدارات النظام السوري المدنية الى تلك المناطق صحة وتعليم وماء وكهرباء. مع ضمان بقاء تركيا حاضرة في كل مراحل المرحلة الانتقالية بما فيها قرار شكل الحكم القادم والانتخابات الرئاسية والبرلمانية وإقرار دستور، والإشراف على دمج القوات المقاتلة التي تدعمها تركيا في إطار الجيش الوطني السوري حتى لا تتكرر تجربة درعا.
استغل الرئيس التركي وصول المبعوث الأمريكي الخاص بسوريا جيمس جيفري إلى أنقرة لبحث تفاصيل الانسحاب الأمريكي المزمع من شمال سوريا، ليطلق مزيدا من التصريحات حول اتفاقية أضنة بالإضافة لتحذيره مجددا بأن بلاده يمكن أن تقوم بمفردها بإنشاء المنطقة الآمنة شمال سوريا إذا ما فشلت محادثاتها مع واشنطن. ويطالب مجددا بتسليم منطقة منبج إلى القوات التركية وحلفائها من المعارضة السورية.
من الواضح أن إعادة تفعيل اتفاقية أضنة وقضية إنشاء المنطقة العازلة هما مشروعين مختلفين ولا يمكن تطبيقهما معا، وعليه فإن تركيا تحاول المناورة بين العروض المقدمة إليها من الطرفين الروسي والأمريكي، وشراء أكبر قدر ممكن من الوقت لتأمين المكاسب عبر تهديد كل طرف باللجوء إلى خطة الطرف الأخر، وحتى اللحظة يبدو أن خطة المنطقة الأمنة التي تطرحها واشنطن هي الخيار الأفضل لأنقرة، كونها ستجيب على مخاوف أنقرة الأمنية وتبعد خطر التنظيمات التي تعتبرها أنقرة ارهابية عن حدودها الجنوبية ، وفي ذات الوقت ستجنبها أي عملية اعادة تطبيع سريع للعلاقات مع دمشق، والتي تشترطها اتفاقية أضنة لتطبيق كامل المعاهدة كما ذكر سابقا.
الخاسرون، الانفصالي الكردي والمعارضة السورية
حتى اللحظة يبدو أن الطرف الكردي هو الخاسر الأكبر من قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، وأن الخيارات باتت تضيق ، في ظل تهديد أنقرة المستمر بشن عملية عسكرية في المناطق التي يسيطر عليها، وهو ما دفع قائد الوحدات الكردية سيبان حمو للإعلان عن تفاؤله بالتوصل لاتفاق مع دمشق قريبا، فبعد محادثات علنية فاشلة في دمشق ، لم يجد هذا الفصيل من الأكراد غير استجداء دمشق لتأمين بعض المطالب الثقافية والادارية الخاصة بمناطق الشمال ، وتوسيع الطرح الرسمي لتوسيع صلاحيات المجالس المحلية ، بما يشمل الحصة الأكبر من المصادر الطبيعية وعائدات الضرائب ، ومن المتوقع أن تنطلق جولة جديدة من المفاوضات بين دمشق والوحدات الكردية . ولا تبدو دمشق معنية بتقديم تنازلات للأكراد في هذه المرحلة ، وتراهن على الحليف الروسي ، لإجبار انقرة على احياء اتفاقية اضنة ، التي تلزم النظام السوري أيضا بملاحقة وتسليم عناصر تنظيم الانفصالي التركي على أراضيها ، خاصة وان المعلومات الميدانية تشير أن القيادة الفعلية لقوات الحماية الكردية السورية هي في غالبيتها من مقاتلي جبل قنديل مركز قيادة العمال الكردستاني التركي ، ومن غير المنطقي أن يقبل الطرف الكردي بأي حل يفضي بتسليم قياداته وعناصره أو التضييق عليهم في سوريا وانهاء تواجدهم كما يطالب الجانب التركي، وتنص عليه اتفاقية أضنة. الأمر الذي يجعل من مهمة التوصل لاتفاق مع دمشق أمرا في غاية الصعوبة بعكس التصريحات الايجابية التي يطلقها الطرفان.
على صعيد آخر ، لا يبدو مستبعدا ، أن تصل الترتيبات الاقليمية الشاملة في سوريا ، إعادة إحياء المفاوضات وعملية السلام التي بدأت في العام 2012 ، بين تركيا وحزب العمال الكردستاني والتي توقفت بعد التدخل الأمريكي في سوريا، فقد تورط الحزب في التحليل الخاطئ الذي وقعت فيه التيارات الاسلامية العربية ، والتي قدرت ان الولايات المتحدة ، بصدد إعادة تشكيل خرائط جديدة للمنطقة العربية ، وأن الثورات العربية ، قد تفتح بابا لتحقيق الحلم التركي بإنشاء دولة كردية جديدة في اجزاء من الاراضي التركية والسورية والعراقية والايرانية . لكن ومع انقلاب المشهد في بلدان الربيع العربي الى حالة من الاحتراب الاهلي المستمر، وتوسع التدخلات الاقليمية، وتقارب المصالح بين طهران وأنقرة ومقارباتها المشتركة للمسألة الكردية، باتت الخيارات أمام الكردي الانفصالي محدودة وتضيق يوما بعد يوم، الأمر الذي يرجح ان تشمل الترتيبات الاقليمية الجارية فوق الأراضي السورية، عودة حزب العمال الكردي التركي الى حضن النظام دون شروط مسبقة.
المعارضة السورية المسلحة بكافة اطيافها هي الخاسر الآخر في ذروة التجاذبات الجارية حول تفسير الأطراف لاتفاقية أضنة، فتنفيذ الالتزامات الخاصة بـ توافقات سوتشي والاستانة الثلاثية (التركية الروسية والايرانية) ينسجم وتعريف تركيا لأمنها القومي، واولوياته المحددة بمنع قيام اي كيان كردي على حدوده الجنوبية، كما يتوافق مع مصلحة النظام السوري الدائمة التي عملت طيلة عقود ماضية بمنع قيام تواصل جغرافي بين مناطق التواجد الكردي، من خلال سياسة ممنهجة في التعريب القسري والتهجير، واحلال العرب في مناطق الأكراد التاريخية. وباتت أنقرة اليوم، أقرب الى التسوية السياسية مع النظام منها الى التغيير الجذري الثوري، لكن مناوراتها ولعبها على الجدولة الزمنية المتفق عليها مع الروسي، لا يزيد مداها عن تحسين شروط نفوذها في الحلول السياسية القادمة للوضع السوري. وبيدها أوراق قوة تمكنها من تحقيق أهدافها، من خلال تحكمها في قوى المعارضة المسلحة في الشمال، وتواجد نحو خمسة ملايين سوري على أراضيها وداخل مناطق نفوذها، وبرنامج تجنيس موسع للاجئين السوريين، قد يصل الى نحو مليون ونصف سوري، بات ابناؤهم جزءا من الثقافة واللغة التركية. ولهذا لم يعد للمعارضين السوريين غير إعادة النظر في خطابهم الذي قام على تغيير شامل وجذري للنظام، والانصياع لشروط الجغرافيا في تحولات سياستها، وبالتالي دفع ثمن انحسار الخيارات في الزاوية التركية، ولم يعد بعيدا ذلك اليوم الذي ستأتي أنقرة بمعارضيها السوريين إلى طاولة المفاوضات مع خصمهم اللدود وأحد صناع نكبتهم، فتلك مقادير السياسة ومآسيها.
خلاصة
كل الاتفاقات بين الروسي والتركي مرهونة ومشروطة باستكمال الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات، واحتمال حصول فراغ، لا يمكن الموافقة على تسليمه للقوى الكردية، او السماح بعودة القوى الارهابية. وسيظهر ذلك في القريب بعد استكمال المباحثات التفصيلية التي اجراها قادة البنتاغون والخارجية والكونغرس في انقرة، ولا تبدو الادارة الامريكية في عجلة من أمرها، فأمامها مهمة استراتيجية، وهي تشكيل حلف إقليمي في مركزه الدولة الاسرائيلية، لمواجهة النفوذ الإيراني، في المنطقة وسوريا على وجه الخصوص.