أوروبا والصين في مواجهة رسوم ترامب الجمركية: السيناريوهات المحتملة

ورقة سياسات

د. محمد قواص، مركز تقدم للسياسات

ملخص تنفيذي:

-أوروبا الأكثر تضررا على المستوى التجمعات الإقليمية، تبحث سبل الاحتواء وتدابير الدفاع وإجراءات الهجوم.
-الصين غير قلقة، تستخدم خطابا غاضبا، وتستعد للتأقلم وإعادة التموضع داخل المشهد الدولي.
-مواقف أوروبا السياسية متقاطعة مع احتمال تباينها في تحديد أشكال الردّ على ترامب.
-تستعد الصين لتدعيم علاقاتها مع تكتلات اقتصادية في آسيا وتفحّص خيارات دولية اقتصادية كانت ممنوعة سابقا.
-أوروبا تبحث خيارات نقل صناعاتها إلى الولايات المتحدة أو فتح آفاق تعاون كانت محدودة مع الصين.

تقديم:

تعاملت الدول الأوروبية مع الإجراءات الجمركية “التاريخية” التي اتّخذها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 2 أبريل 2025، باستياء عبّرت عنه مواقف عواصم القارة. بالمقابل فإن الصين كانت أكثر شراسة في ردّ فعلها، معتبرة الأمر حربا تجارية لن تتأخر في خوضها والدفاع عن مصالحها. ورغم لغة الاستهجان التي صدرت عن المسؤولين الأوروبيين، فإن احتمالات الحوار والتفاوض ما زالت مطروحة قبل أي ردّ بالمثل بالمقابل، فإن الصين باشرت الردّ من دون تردّد، فيما تسرّب بكين توجّهات قد تكون مواتية لتوسيع حضورها حتى داخل مناطق اقتصادية كانت محسوبة على فضاء أميركا الاقتصادي والسياسي.

موقف أوروبا السياسي: الانسجام والحذر

لم تكن قرارات ترامب مفاجئة، فقد كان أعلن عن خطّط بشأنها منذ الحملة الانتخابية. غير أن إعلان القرارات وتفاصيلها نقل المسألة إلى حيّز واقعي بدا أن الأوروبيين يتوقعونه، مجمعون على إدانته والوعد بالتعامل معه، وفق ما كشفته مواقف قادة القارة.
أدلت العواصم المنتمية إلى الاتحاد الأوروبي بردود فعلها الخاصة، لكنها جميعها، في المعلن والمكتوم، تتفق على التعامل مع المسألة بردّ جماعي سواء في خيار التفاوض للتوصل إلى تسوية، أو خيار الردّ بالمثل وحتى بأشكال قاسية. وجاءت ردود الفعل وفق النسق التالي:

1- الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها الرئيس الأميركي تشكّل “ضربة كبيرة” للاقتصاد العالمي، وفق رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، التي أبدت “أسفها العميق” للقرار متوعدة بأن الأوروبيين “مستعدون للرد” ويعملون على “حزمة جديدة من التدابير المضادة” في حال فشل المفاوضات مع الإدارة الأميركية.
2- يقوم موقف أوروبا على مزاج أوروبي عام عكس غضبا مما اعتبُر نيلا من فلسفة التحالف والشراكة التي تجمع تاريخيا ضفتي الأطلسي.
3- ذهب رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو إلى اعتبار الرسوم “كارثة” لأوروبا وأيضا للولايات المتحدة. بالمقابل اعتبر المستشار الألماني أولاف شولتس أن الرسوم “خاطئة جوهريا”، واعتبر أن الإجراء الأميركي “هجوم على نظام تجاري حقق ازدهارا في أنحاء العالم، نظام تجاري هو في جوهره ثمرة جهود أمريكية”.
4- يلتقي يمين الوسط واليسار الأوروبي على موقف نادر مشترك على رفض منطق قرارات ترامب. يعتبرها رئيس الحكومة الإسباني الإشتراكي بيدرو سانشيز “هجوما أحادي الجانب” على أوروبا، وتشكّل “عودة الى حمائية القرن التاسع عشر وليست نمطا ذكيا لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين”.
5- يذهب رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك إلى التذكير بأن “الصداقة تعني الشراكة. الشراكة تعني تعرفات متبادلة”، مشيرا إلى أنه “من الضروري اتخاذ قرارات مناسبة”. فيما يعتبر وزير الخارجية الدنماركي لارس لوك راسموسن إنّ “الجميع استفادوا من التجارة العالمية (…) وأن لا أحد ينتصر من حرب تجارية، الجميع خاسرون”.
6- فيما تعتبر صديقة مقرّبة من الرئيس الأميركي، قالت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إن فرض الولايات المتحدة رسوما جمركية على الاتحاد الأوروبي “إجراء خاطئ ولا يصبّ في مصلحة أيّ من الطرفين”، مرجحة “بذل قصارى جهدنا للتوصل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة لتجنب حرب تجارية ستؤدّي حتما لإضعاف الغرب لصالح جهات فاعلة عالمية أخرى”.
7- الدفاع عن الغرب ظهر أيضت في موقف الرئيسة السويسرية كارين كيلر-سوتر التي اعتبر ت أن قرار ترامب “إجراء سيّئ”، محذّرة من أنّ اندلاع حرب تجارية لن يؤدّي إلا إلى إضعاف الغرب.
8- بروز حالة بريطانية خاصة من خلال اعتماد خطاب حسّاس تراوح ما بين التحفّظ وعدم التصعيد بالنظر إلى تطلّع لندن لإبرام اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة. أقر رئيس الوزراء كير ستارمر بأن الرسوم الجمركية الأمريكية سيكون لها “تأثير” على الاقتصاد البريطاني، واعدا بالتصرّف “بما يخدم مصالح بريطانيا بموجب التفويض المعطى لي”، مضيفا أن المفاوضات التجارية ستستمر مع إدارة دونالد ترامب “وسنناضل من أجل أفضل اتفاق لبريطانيا”. وأكد أن “لا أحد ينتصر في حرب تجارية”، متعهدا الرد “بعقلانية وهدوء ورزانة”.

خيارات أوروبا: الاستيعاب والردّ المحتمل:

في عام 2023، صدّر الاتحاد الأوروبي سلعًا بقيمة 576.3 مليار دولار، أي ما يقارب 20 بالمئة من إجمالي صادراته، إلى الولايات المتحدة، وفقًا لبيانات مكتب الإحصاء الأميركي، مما يجعل الولايات المتحدة ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد. وتدرس أوروبا التداعيات الأولية لقرارات ترامب على الأسواق العالمية، وتستكشف مع قطاعات الأعمال مستويات الضرر وسبل تخفيفها سواء بالتأقلم مع هذا التحوّل والسعي إلى التفاوض، أو بالذهاب إلى حرب تجارية مفتوحة، قد تعيد تشكّل أسواق أوروبا وموقعها داخل مشهد دولي اقتصادي متحوّل. ويمكن تلخيص خيارات أوروبا بالاحتمالات التالية:
1- اللجوء إلى تدابير ذاتية دفاعية من خلال خطة شاملة لتقديم الدعم المالي للقطاعات الاقتصادية المتضررة من الرسوم الجديدة تضاف إلى إجراءات تقوم بها كل دولة عضو بشكل مستقل، على منوال ما فعلته إسبانيا بتقديم حزمة قيمتها أكثر من 15 مليار دولار.
2- مباشرة جولات من المفاوضات الدقيقة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على قواعد جديدة، للتوصل إلى قواسم مشتركة، ونقطة توازن بين سردية ترامب وما يمكن للاتحاد أن يقبل به لملاقاة قراءة الرئيس الأميركي لأسباب العجز في الميزان التجاري الأميركي.
3- البحث في إمكانية رفع حجم استيراد أوروبا للغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة بما يعدّل من الميزان التجاري ويلاقي هواجس ترامب في هذا الصدد. ويعتبر الأمر استرضاء للرئيس الأميركي يخفف من خطابه العدائي ضد أوروبا.
4- البحث في سيناريو استحداث وحدات صناعية أوروبية داخل الولايات المتحدة لتتحوّل منتجاتها إلى منتجات أميركية لا تخضع للرسوم الجمركية، ما من شأنه خلق فرص عمل داخل الولايات المتحدة وفق ما يعد به ترامب ناخبيه، علماً أن إقامة تلك الوحدات لن يتمّ في القريب الآجل ويحتاج إلى سنوات قد تكون مكلفة بالنسبة للأوروبيين.
5- فرض تعرفات جمركية مضادة (في حال فشل المفاوضات) على صادرات الولايات المتحدة إلى دول الاتحاد الـ 27، وهي صادرات تقدر قيمتها بحوالي 28 مليار دولار. وكان الاتحاد فرض خلال إدارة ترامب الأولى عام 2018، تعريفات انتقامية على سلع أميركية بقيمة 3.2 مليار دولار.
6- فرض ضرائب ورسوم على عمالقة التكنولوجيا الرقمية الأميركية العاملة في أوروبا، ما يمكن أن يشكّل ضربة لهذا القطاع الذي أعلن رؤساء شركاته الكبرى مواقف متحالفة مع ترامب في ولايته الثانية، على نحو يختلف عن سلوكهم في ولايته الأولى.
7- دراسة إزالة القيود السابقة للتعامل مع مناطق اقتصادية في العالم، وخصوصا الصين التي لطالما وضعت علاقة أوروبا مع الولايات المتحدة سقوفا لها.

الصين: التموضع لحرب تجارية

لم تتردد الصين في استخدام النبرة العالية في الرد على قرارات ترامب. باستخدام كافة الصيّغ المتاحة:
1- أعلنت وزارة التجارة أنها “تعارض بشدة” الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة.
2- تعهدت باتخاذ “تدابير مضادة لحماية حقوقها ومصالحها”.
3- قالت إن الرسوم الجمركية الأميركية “لا تتوافق مع قواعد التجارة الدولية وتضر بشكل خطير بحقوق الأطراف المعنيين وبمصالحهم المشروعة”.
4- حضّت “الولايات المتحدة على إلغاء التعرفات الجمركية الأحادية الجانب فورا وحل الخلافات مع شركائها التجاريين بشكل سليم من خلال حوار منصف”.
5- انتقدت وزارة الخارجية استخدام واشنطن الرسوم الجمركية كسلاح “للضغط الشديد وتحقيق المصالح الذاتية”، قائلةً إن “التنمر الاقتصادي الأمريكي سيأتي بنتائج عكسية في النهاية”.
6- أكدت عدم السعي للصراع وعدم الخشية منه، وأن “الضغط والتهديدات ليست الطرق الصحيحة للتعامل مع الصين”.

الصين: الخيارات والآفاق:

تكشف الصين علنا، ومن خلال رسائل غير مباشرة، عن جهوزيتها للتعامل مع الحدث بجدارة ومن دون قلق. استخدمت لهجة حادة وحازمة، وأعلنت عن التدابير المضادة من ضمن إطار أوسع يبدو معدّا سلفا لإعادة التموضع داخل المشهد الاقتصادي الدولي وفق المؤشرات التالية:

1- إعلان مجلس الدولة عن فرض رسوم جمركية متبادلة بنسبة 34 بالمئة على جميع السلع والمنتجات المستوردة من الولايات المتحدة، بما اعتبر أسلوبا انتقاميا مباشرا من دون التعويل على أي مراجعات أميركية لاحقة أو أي مساومات محتملة.
2- على عكس أوروبا، فإن الصين تستبعد الوصول إلى تفاهمات من خلال التفاوض، ولا يظهر هذا الاحتمال في المواقف الرسمية وإن كان الأمر واردا في حال عقد بكين وواشنطن محادثات تتناول مستقبل العلاقات الأميركية الصينية في إطار استراتيجي أشمل.
3- قبل أيام قليلة من إعلان ترامب عن قراراته، تحركت الصين لإحياء محادثات التجارة الحرة المتعثّرة مع اليابان وكوريا الجنوبية، وكلتاهما حليفة للولايات المتحدة ملتزمة معها بمعاهدات. وتسعى الصين وفق هذا النهج إلى تعزيز دورها ومكانتها في الاقتصاد العالمي.
4- من المتوقع أن تنتهج الصبن سياسة تودّد لهذه الدول بقوة أكبر لتقديم نفسها مرتكزاً اقتصادياً أكثر استقراراً في المنطقة”. وستشمل هذه السياسة تعزيز الشراكات التجارية مع دول أخرى مثل أوروبا وروسيا وجنوب شرق آسيا، مما يقلل الاعتماد على السوق الأميركية
5- وضع قيود فورية على تصدير 7 أنواع من المعادن النادرة. وتهدف هذه الخطوة إلى الضغط على الولايات المتحدة، حيث تعتمد الصناعات الأمريكية بشكل كبير على هذه المعادن.
6- تدرس الصين خفض قيمة عملتها لتعزيز الصادرات وتخفيف أثر الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة. وقد انخفض اليوان فعلا إلى أضعف مستوى له منذ فبراير 2025 في التداولات الداخلية عقب إعلان ترامب الرسومَ الجمركية.
7- توقّع إعلان الحكومة الصينية عن خطط لتحفيز والصفقات التجارية مع أسواق جديدة للتعويض عن الانكماش المتوقع لحجم التجارة الصينية مع الولايات المتحدة.
8- توقّع اتخاذ الصين إجراءات من شأنها رفع الطلب الداخلي ما من شأنه امتصاص فوائض الانتاج الناجمة عن ضعف سوقها الأميركي. تهدف هذه الإجراءات إلى المحافظة على مستوى دوران القطاع الصناعي بكامل طاقته وتجنّب حدوث تباطؤ اقتصادي عام.

خلاصة واستنتاجات:

**تعتبر أوروبا قرارات ترامب بشأن الرسوم الجمركية “كارثة” تهدد أسواق أوروبا والولايات المتحدة، وتنال من المنظومة الغربية.
**رغم لهجة الغضب والإدانة الصادرة عن عواصم الاتحاد الأوروبي، ما زال المسؤولون الأوروبيون يعوّلون على نجاح مفاوضات مع الولايات المتحدة للوصول إلى قواسم مشتركة مناسبة.
**سيدرس الاتحاد الأوروبي خيارات ردّ بالمثل في حال فشل المفاوضات، غير أن الأمر قد يحتاج إلى نقاش قد يكون معقّدا بين دول الاتحاد.
**تحتفظ بريطانيا، رغم اعترافها بضرر رسوم ترامب على اقتصادها، بلهجة معتدلة معوّلة على إبرام اتفاق تجارة مع الولايات المتحدة.
**من غير المستبعد مراجعة أوروبا لعلاقاتها مع الصين التي كانت محددة سابقا بسقوف تفرضها العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
**ردّت الصين باتخاذ إجراءات مماثلة ضد الولايات المتحدة من غير تعويل على تفاهمات لاحقة مع الولايات المتحدة. واستخدمت بكين لهجة حازمة غاضبة لائمة.
**تشمل الإجراءات فرض قيود على تصدير 7 من المعادن النادرة واحتمال خفض قيمة اليوان الصيني.
**بدأت الصين مشاورات مع اليابان وكوريا الجنوبية، ومن المتوقع انتهاجها سياسة لتعزيز الشراكات مع أوروبا وروسيا وجنوب شرق آسيا.
**من المتوقع اتخاذ الصين إجراءات من شأنها رفع الطلب الداخلي ما من شأنه امتصاص فوائض الانتاج الناجمة عن ضعف السوق الأميركي. تهدف هذه الإجراءات إلى المحافظة على مستوى دوران القطاع الصناعي بكامل طاقته وتجنّب حدوث تباطؤ اقتصادي عام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.