أزمة الخاشقجي: انتصرت تركيا وهزم الإخوان المسلمون ورعاتهم
مركز التقدم العربي للسياسات
أدى حادث قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في استنبول، الى حالة ارتباك سياسي تجاوز الاقليم ليصبح حدثا عالميا بامتياز. غير أن الارتباك الأكبر كان في بلد وقوع الجريمة. فقد وضعت على المحك سمعتها وعلاقاتها الدولية، والثقة بفاعلية مؤسساتها ونزاهة قضائها. وخلال ثلاثة أسابيع ظلت الحكومة التركية ، تصدر الإشارات غير الرسمية التي تظهر قدرة استخباراتها ومؤسساتها على الإحاطة التفصيلية والدقيقة بالجريمة ، دون أن تتورط في إصدار أحكام إدانة صريحة ،وأدارت القضية بدرجة عالية من الحرفية والحنكة والمسؤولية ، وبدا واضحا أن الرئيس رجب طيب أردوغان كان يسير على حبل مشدود خلال ادارته للأزمة التي خلفتها الحادثة، فقد تجنبت أنقرة منذ اليوم الأول ولغاية اللحظة لهجة التصعيد وأي حديث عن قطع العلاقات أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع الرياض، بالرغم من الانتهاك الصارخ لسيادتها. فقد أدركت الدولة التركية العميقة، أن التوسع في دائرة الاتهام لتشمل العائلة السعودية المالكة، حكومة وملكا وولي عهد سيحفر جرحا عميقا في العلاقات بين البلدين والعالم العربي، بما تمثله المملكة من مكانة دينية وسياسية واقتصادية. المعطيات تشير إلى أن حجم الاستثمار السعودي الرسمي في تركيا يتجاوز عتبة الثمانية مليارات دولار، عدا عن حجم تبادل تجاري يقارب هذا الرقم، وأي توتر في العلاقات مع المملكة سيتبعه تدهور مع حلفاء الرياض التقليديين في العالم العربي والدول الإسلامية الحليفة، وعليه فقد اجتهد الرئيس التركي في تصريحاته للحفاظ على حالة من التوازن والدقة، من غير أن يفوت أي فرصة تسمح له بممارسة مزيد من الضغط السياسي على الرياض و حليفتها التاريخية واشنطن. وبدا واضحا أن حادثة مقتل خاشقجي أتت كفرصة على طبق من ذهب للرئيس التركي لتوجيه الاتهامات الضمنية لولي العهد دون أن يمس بمكانة الملك، وفي هذا يرضي مروحة واسعة من الأطراف المتضررة من السياسة المندفعة والنشطة والقاسية للأمير محمد بن سلمان ، داخليا وخارجيا ، سيما وأن الأخير تعامل بقوة وندية مع الاختراقات التركية لخاصرة الأمن القومي السعودي على مسرح الجوار الجغرافي وفي الدوائر ذات الاهتمام والمصالح، في السودان ،حين اقامت قاعدة عسكرية في سواكن على شواطئ البحر الأحمر بتمويل قطري، وفي قطر ذاتها عبر إنشاء قاعدة الريان العسكرية للقوات التركية، و استمرت أنقرة في مناصبة مصر العداء، ولا تخفي القاهرة اتهاماتها لتركيا بالوقوف خلف التنظيمات الجهادية المتطرفة في سيناء وليبيا . كما أن السعودية تشعر بالقلق من التوغل التركي في الصومال وجيبوتي وتشكيلها الدرع الواقي للتمدد القطري في القرن الأفريقي، في إطار الصراع والخلاف الخليجي. كما أن انقرة، لم تتمكن من تجاوز دعم السعودية لخلع الرئيس الإخواني المنتخب محمد مرسي، والدعم السياسي والمالي اللامحدود الذي تقدمه الرياض وولي العهد شخصيا لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي بالإضافة الى حملة المقاطعة التي ضربتها الدول الخليجية على قطر، حليفة تركيا الرئيسية في المنطقة. إضافة للدور السعودي الذي برز منذ تولي ولي العهد مقاليد الحكم في التصدي للمشاريع الإخوانية والاسلام السياسي في البلدان العربية وتصنيفها كمنظمات ارهابية محظورة وملاحقة.
ولهذا تبدو كل تلك الأسباب مجتمعة، دافعا قويا للرئيس التركي لاستهداف محمد بن سلمان شخصيا واستغلال أي فرصة تسمح بإضعاف دوره أو اقصائه عن الحكم، وهو ما بدا واضحا في خطاب الرئيس التركي حين شدد على مصداقية الملك السعودي سلمان واصفا إياه بـ ” خادم الحرمين الشريفين ” في إشارة لا تخلو من دلالة ، قوامها أن تركيا لا تنازع السعودية على زعامة العالم الإسلامي ، لكن تكرار أردوغان في خطابه امام البرلمان بأن حادثة القنصلية كانت مدبرة مسبقا وعلى أعلى المستويات، في اشارة أخرى لولي العهد ، تشير بوضوح الى إصرار أنقرة على ابقائه تحت الضغط والاتهام . لكن المفارقة تكمن في أن الرئيس التركي ظل حريصا على عدم تسمية ولي العهد أو الإشارة له بشكل شخصي ، في خطوة تظهر ادراك أردوغان أن عملية إقصاء محمد بن سلمان غير مضمونة، وتقديره الدقيق لحجم السلطة التي جمعها بين يديه في المجالات كافة السياسية والاقتصادية والدفاعية والأمنية والإعلامية ، فالأمير الشاب ر أدار انقلابا ناعما في كافة المجالات ، توجها بحملة اعتقال جماعي لعدد من الأمراء المتنفذين في المملكة، في حملة واسعة لمواجهة الفساد بدءا من داخل البيت ، كما ولا يخفى على أردوغان والمحيطين به ان بن سلمان بات امل جيل كامل من الشباب السعودي الذي يرون فيه رائدا في التحديث والتغيير ونقل المملكة الى عصر الحداثة والمعاصرة، كما ولا يخفى على الذكاء التركي أن بن سلمان دك حصون التيارات الإسلامية المتزمتة ووضع رموزها رهن الاحتجاز ، بعد أن جاهرت بالعداء والنقد لخطواته الإصلاحية . في هذا الإطار يمكن فهم خيبة الأمل التي اجتاحت كل أوساط الإسلام السياسي ورعاتهم في المنطقة من الموقف التركي. فقد حشدت طيلة الازمة كل ماكيناتها الإعلامية للتحريض على السعودية وشخص بن سلمان، على أمل أن يذهب الرئيس التركي في قطيعته مع السعودية الى نهاية الشوط، خدمة لأهدافها وأجندتها المعلنة، فعزل السعودية وحكامها ودمغها بصفة الدولة المارقة، ظل أملا يراود رعاة الإسلام السياسي في الدوحة واوساط نافذة في حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.
لقد أدار أردوغان أزمة القنصلية السعودية في اسطنبول، بعقلية الدولة الكبيرة الإقليمية المقررة، بما يبقى كل الأبواب مفتوحة، محتفظا بكل أوراقها بيديه، فقد تعامل مع السعودية كدولة شقيقة لا يسعى لخسارتها ولا تدميرها كما أرادت المكائد البدوية العربية ، ولا فتح باب الخصومة الفاجرة ، مغلبا حسابات المصالح المتبادلة وأبعادها التاريخية ، وكذا لتعاون كامل من الطرف السعودي في التحقيق ومحاسبة المسؤولين المباشرين عن الجريمة ، مهما على شأنهم.
في محاولة لفهم فجور الخطاب الإخواني العربي تحديدا والتحريض الذي يتجاوز جريمة قتل الخاشقجي، ليصل الى الهجوم المبطن على الرئيس التركي الذي خيب امالهم في خطابه الأخير. نجد بعدا آخر يتجاوز السياسي، ويتصل بجدل يتجاوز عمره المئة عام أي مطلع القرن الماضي ونهاية الحرب العالمية الاولى ، حين أعلن الزعيم التركي أتاتورك انتهاء الخلافة الإسلامية ، وانبرى القوميون العرب في مؤتمر باريس عام ١٩٢٠، لتأسيس بيانهم الأول الداعي الى استقلال البلدان العربية تركة الدولة العثمانية ، فيما تأسست الخطاب الاسلاموي على الدعوة إلى إعادة إحياء الخلافة الاسلامية ، وشكل هذا الموضوع الرافعة الأساس في برنامج حسن البنا عام ١٩٢٨ . والمتابع للحركات الإسلامية يلحظ أنه منذ عودة الاسلاميين مع نجم الدين أربكان بحزب السعادة ثم النسخة الجديدة في العدالة والتنمية وشخصية اردوغان الكارزمية، عاد الاخوان العرب الى إحياء فكرة الخلافة والبسوا تركيا وزعيمها، عباءتها وأحلامها، دون حساب للظروف التاريخية او حتى الفهم العميق لجذور الإسلام التركي الصوفي (النورسي).
ومع اندلاع الانتفاضات العربية، وتبني تركيا ودعمها لتيارات الإسلام السياسي، لأسباب اقتصادية وسياسية لم ولن يفهما الواهمون العرب، زادت اوهام الاخوان اشتعالا، خاصة بعد اختطاف الإخوان وفروعهم المتطرفة الاخرى للانتفاضات في مصر وتونس وسوريا واليمن وليبيا، وباتت اسطنبول محجا وملاذا سياسيا واعلاميا وعملياتي لهذه التيارات، وزاد التقديس لـ “منقذ الأمة وحامي حماها وخليفتها المنتظر”، رجب طيب أردوغان. رغم أن الرجل وعدد من مساعديه عبروا صراحة أكثر من مرة أن سياق الدولة التركية العلماني يختلف عن العالم العربي، وعبر أحد مستشاريه صراحة عن غضبه من محاولات الإخوان العرب نقل تجاربهم الفاشلة الى بلاده. هنا يمكن تفسير سبب انفجار غضب الاخوان العرب، واستمرار حملتهم البغيضة في أكثر من اتجاه والتي تستهدف مكانة السعودية بالدرجة الاولى تحت عنوان محمد بن سلمان شخصيا، حملة سياسية بامتياز، لأحزاب تبحث عن أب وحام وملاذ ، بعد فشل مشروعهم في تأسيس مركز للتمكين السياسي، ولا صلة لها لا بدم الخاشقجي ولا الإسلام السمح المتسامح ذاته ، فهم مثل أي قوة سياسية تسعى للسلطة بأي ثمن . وآخر خشبة يستندون إليها اليوم هي الخلاف القطري السعودي الذي أصبحوا جنوده المجندة، وكلما ارتفع الصراخ والعويل على دم الخاشقجي، ذلك يعني إنها لحظات الخوف من مواجهة الحقيقة المؤجلة منذ ثمانين عاما ونيف.