أزمة الأحزاب البريطانية والاوروبية الكبرى: محاولة يائسة لإعادة بناء تيار الوسط
أزمة الأحزاب البريطانية والاوروبية الكبرى: محاولة يائسة لإعادة بناء تيار الوسط
مركز تقدم للسياسات
أعلن سبعة نواب من حزب العمال البريطاني استقالتهم من الحزب تعبيرا عن استيائها من أساليب عمل الحزب وزعيمه جيريمي كوربين. وقد شكلت خطوة لوسيانا بيرغر ، تشوكا أومونا ، كريس ليزلي ، أنجيلا سميث ، مايك جابس ، آن كوفي وجافين شوكر صدمة في أوساط مجلس العموم .ادلى كل نائب على حدة ببيان عبر فيه عن المبررات التي دفعته للاستقالة ، ثم أصدروا بيانا مشتركا حددوا فيه أسبابهم للمغادرة قائلين إن “القيم التقدمية” قد تم التخلي عنها من قبل حزب العمال .بعد أيام أصبحوا تسعة ، بعد أن حذت جوان ريان طريقهم ،وهي رئيسة جمعية أصدقاء اسرائيل في حزب العمال والنائب عن منطقة إنفيلد نورث .النواب المستقيلين شكلوا على الفور ” المجموعة المستقلة” . هناك اقتراحات بأن ينتظموا في نهاية المطاف في حزب وسطي معتدل حسب تعبيرهم. في البيان الذي خرجوا به للرأي العام انتقدوا سياسة حزب العمل الخارجية، سياسته الاقتصادية، وموقفه من قضية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والعقيدة الأيديولوجية المتطرفة التي دمغ كوربين بها الحزب والمسألة الأهم كانت معاداة السامية التي انتشرت في أوساط الحزب برأيهم . أشارت لوسيانا بيرغر، وهي ناقدة صريحة ودائمة لجيرمي كوربين، بوضوح في مقابلات صحفية ” أنها تشعر بالحرج والخجل من أن تكون في حزب يعادي السامية “. إن هذا الموقف الذي عبرت عنه هذه المجموعة ليس جديدا، ففي الاشهر القليلة الماضية بدأت الحملات المنظمة التي استهدفت زعيم الحزب بصورة شخصية بالتشويه، ووصفت من قبل قيادة الحزب بانها ” اكاذيب وتلفيقات لا اساس لها وان هدفها تقويض مكانة الحزب بتحريض خارجي مع اقترابه من تشكيل الحكومة”. في الواقع، انكشف اليوم ان المهندسين البارزين لمثل هذا المخطط هم في الغالب ذات المجموعة التي أعلنت استقالتها من الحزب. ويقول معلقون إن دوافع النواب المنسحبين لا يمكن تفسيرها إلا بالمصلحة الذاتية الضيقة ومحاولة يائسة للبقاء في المشهد السياسي. فخمسة من النواب التسعة يتعرضون لانتقادات قاسية من قبل قواعد الحزب الانتخابية الشابة ، على أدائهم وطريقة اختيارهم دون غيرهم للترشح على قوائم الحزب للانتخابات البرلمانية ، كما تعرضوا لحملات مستمرة من قبل تيار ” مومينتوم ” في الحزب لدفعهم للاستقالة على أرضية أدائهم غير الشعبي والذي لا يتناسب مع مصالح الفئات المهمشة والضعيفة التي يدعي الحزب تمثيلها والدفاع عنها. على سبيل المثال، كريس ليزلي، أنجيلا سميث، غافن شوكر ولوسيانا بيرغر كانوا جميعاً يواجهون سحب التفويض في دوائرهم الانتخابية، وفي الوقت نفسه عبر مايك جابيس وآن كوفي في البرلمان لسنوات عن رغبتهما في الاستقالة. ومن المؤكد أنه لن يكون مجاف للحقيقة أن نرى هذه المناورة، بأنها سباق يائس على دور متخيل في الحياة الحزبية بعد استنفاذ الفرص في حزب العمال. من جهته أعرب كوربين عن خيبة أمل قوية من خطوة زملائه.” لأن هؤلاء النواب شعروا بعدم القدرة على الاستمرار في حزب ألهمت سياساته الملايين في الانتخابات الأخيرة ورأينا زيادة غير مسبوقة في التصويت له منذ العام 1945″.في الواقع ، حزب العمل هو الآن واحد من أكبر الأحزاب في أوروبا الغربية وتزيد عضويته على نصف مليون عضو ، وتيار شبابي شعبي واسع النفوذ ينتظم في ” مومينتوم ” ملتزم بأفكار جيرمي كوربين وله الدور الأكبر في زيادة شعبية الحزب في أوساط الشباب على وجه التحديد .ليس غريبا أن يشير كوربين الى الزخم الشعبي الكبير الذي حققه حزب العمال في الانتخابات الاخيرة ، بعد ان تراجعت شعبيته عشرين نقطة خلف حزب المحافظين في عهد سلفه إد ميليباند الذي اضطر الى الاستقالة تاركا حزبه حطاما ، وقد خسر نحو ٢٠٠ ألف بطاقة عضوية خلال عامي 2013 و 2014. لقد أذهل العجوز كوربين الأمة البريطانية وأحدث زلزالا في الخارطة السياسية البريطانية.، عندما حصل على 40٪ من الأصوات في الانتخابات الاخيرة، وجرد تيريزا ماي من أغلبيتها الحاكمة في أكبر زيادة في نسبة التصويت من قبل زعيم حزب العمل منذ كليمنت أتلي في عام 1945. والنتيجة المذهلة أن مناطق في جنوب انجلترا مثل بليموث وكانتربري، والتي كانت لسنوات محسوبة على لمحافظين، فاز بها حزب كوربين، وبفارق معقول.
ومع ذلك، فإن كوربين لا يزال يتلقى الانتقادات الحادة بصورة متصاعدة مع إعلان المزيد من أعضاء البرلمان العماليين الرغبة في الانسحاب من الحزب، بادعاء انه تحول الى يسار متطرف وملجأ لمعادي السامية واسرائيل. أعلنت آن كوفي “أن القيادة الحالية كانت ناجحة في تغيير الحزب إلى حالة لم تعد تشبهنا “. قد تكون مشاعر كوفي مدفوعة بجدول أعمال شخصية لديها. لكن الحقيقة تشير إلى ما هو أعمق من ذلك، فالحزب بدأ اليوم أقرب إلى تصفية آثار المرحلة البليرية التي حول حولت الحزب وفكرته الاساسية من الدفاع عن المصالح الفعلية لغالبية العاملين والمهمشين في البلاد الى حزب يميني وسطي، ساهم في ترويج فكرة الخصخصة وإلغاء القيود والتخفيضات الضريبية على الاثرياء وشرعن التدخل العدواني الخارجي. ويقول المتحمسون لتغيير هوية الحزب الايديولوجية ، أن المسألة ليست ترفا فكريا وانما استدعته المسؤولية والضرورة ، مع الازمة المالية العالمية والانهيار الاقتصادي الذي انفجر في العام 2008 ،ولا زال مستمرا مع الثورة الرقمية التي حولت ملايين العاملين إلى البطالة ، ما يستدعي تعديلا جوهريا في طبيعة الدولة من مرحلتها النيوليبرالية التي تركت لآليات السوق الحر إدارة الاقتصاد إلى دولة أكثر تدخلية لإعادة التوازن لكل العملية الاقتصادية والاجتماعية وتوزيع عادل للمسؤولية والأعباء على كافة الفئات ، دولة توفر شروطا عادلة لخلق اقتصاد يعمل للجميع ، وتوسيع مظلة الضمان الاجتماعي لجميع العاملين . بهذا المعنى يمكن تفهم الشعارات التي يحملها المستقيلون من الحزب الذي لم يعد يشبههم. والحقيقة أن البنية الاجتماعية والعمرية للحزب تغيرت جذريا في السنوات الثلاث الأخيرة من عهد جيرمي كوربين، إذ زاد التمثيل الشبابي لأعمار تقل عن الثلاثين عاما بما يزيد عن النصف، وأضاف تيار مومينتوم وغالبيته من طلبة الجامعات ما يقرب من ربع مليون بطاقة عضوية جديدة، وهؤلاء التحقوا بحزب لا علاقة له بالكتلة البليرية “اليمينية “عنوانه الجديد افكار كوربين تحديدا، التي كانت هامشية داخل الحزب طيلة عقود طويلة.
فرض تيار “مومينتوم ” والاعضاء الجدد في الحزب روحا جديدة، تطالب بالديمقراطية الداخلية، والانتخابات التمهيدية لمرشحي البرلمان في الدوائر الانتخابية، كما شنوا حملة تشهير لإقالة نواب حزب العمل المختلفين معهم، وفرضها على قيادة الحزب تصويتا داخليا لأولويات أجندة مؤتمر الحزب السنوي، هكذا فاز اقتراح النقاش حول القضية الفلسطينية بـ 188 ألف صوت، ليحتل المرتبة الرابعة في قائمة أولويات المؤتمر، وذلك قبل عناوين البريكسيت ووالقطاع الصحي. كما مر اقتراح تجميد مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل بأغلبية ساحقة من الأصوات. من الواضح أن الحزب اليساري بات في وضع القطيعة مع ماضيه النيوليبرالي لا يرضي أولئك المنسجمين في طروحاتهم مع حزب المحافظين أكثر من التزامهم بحزب العمال، وباتوا يصنفون حزبهم بأنه “اختطف من قبل الجهاز الحزبي الذي يقوده كوربين “. أو ” أن الحزب أصبح يساريا متطرفا “. وحتى نضع الأمور في نصابها السياسي الدقيق فإن الأزمة السياسية والحزبية لم تقتصر على حزب العمال وإنما امتدت لتصل الى الحزب الرئيس الآخر في البلاد ، حزب المحافظين، فقد قفز ثلاثة وزراء محافظين من السفينة وأعلنوا انضمامهم إلى ” المجموعة المستقلة”. كتبت آنا سوبري ، سارة ولاستون وهايدي ألن رسالة مشتركة إلى تيريزا ماي لتأكيد رحيلهم من الحزب ، ألمحوا إلى إخفاقات حزبهم وقائدهم ، خاصة في موضوع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ،وأشاروا بوضوح إلى ان حزبهم يشهد “تحولًا نحو أقصى اليمين”. في الحقيقة ، وفي مناسبات عدة اضطرت تيريزا ماي إلى استرضاء المجموعة اليمينية القومية الصلبة التي تنادي بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق ، في وقت يقف تيار آخر يدعم فكرة استمرار المفاوضات من أجل علاقة مقبولة مع الاتحاد الأوروبي تحافظ على وحدة المملكة المتحدة . موضوع العلاقة مع الاتحاد الاوروبي سرع في الواقع عملية الاستقطاب الحاد في المشهد السياسي البريطاني بين تيار يساري جذري واخر يمني متطرف. وهو ما أقنع من يسمون بالمعتدلين الذين يستثنيهم حالة الاستقطاب الحادة وتخرجهم من دائرة الفعل والتأثير الى التفكير في احتلال موقع الوسط الذي يرونه فارغا في الوقت الراهن. ويبدو أن ظاهرة الانقسام والاستقطاب الحاد لم يعد ظاهرة بريطانية خالصة وإنما تمتد اعراضها الى اوروبا، مما يؤكد أن الازمة عالمية. نحن نشهد اليوم تراجعا في مكانة أحزاب اليمين والاشتراكيين الديمقراطيين في مختلف دول القارة الاوروبية لصالح احزاب شعبوية يمينية ويسارية. اشار استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “إيبسوس موري”، على عينة اوروبية بسؤالهم عما إذا كانوا يشعرون بأن “الأحزاب التقليدية والسياسيين” يهتمون بأشخاص مثلهم ويمثلونهم. كانت الردود واقعية. 47 في المائة من الناس في ألمانيا، 51 في المائة في إيطاليا، 57 في المائة في بريطانيا، 64 في المائة في هنغاريا، و67 في المائة في فرنسا، أجابوا ” بأن الحرس القديم تخلوا عنهم، وهم يشعرون بأن الأحزاب الرئيسية لم تعد موجودة”. ولعل طبيعة الحركات الجديدة التي تتقدم المشهد السياسي في أوروبا، تدلل على أن الأحزاب الكبيرة التي شكلت معالم أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، تدهور وضعها ومكانتها وتتآكل شعبيتها. تلك مرحلة انتقالية عالمية قد تطول، ومداها والآثار السياسية والاجتماعية والثقافية لهذه المرحلة الصعبة مرتبطة وثيقا بحجم ومدى الركود الاقتصادي الكبير الذي يشابه ازمة 1929 التي أدت إلى ظهور الفاشية وحرب عالمية أتت على البشرية بكوارث وخسائر هائلة.